انتهت صلاة الإخوة وادعيتهم وخرجنا بعد ذلك إلى رواق وقبة مرقد الإمام ووجدنا زواره قد التفوا حوله يقبلونه ويسلموا على الإمام الرضا ابن موسى الكاظم، ابن جعفر الصادق، ابن محمّد الباقر، ابن عليّ السجّاد زين العابدين، ابن الإمام السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين، ابن سيّد الأوصياء عليّ أمير المؤمنين، ابن أبي طالب، بن عبدالمطّلب..رضي الله عنهم جميعا.
هو الإمام الثامن من أئمة الشيعة
الإمامية ,كنيته أبو الحسن، ولقبه الرضا. ولد في 11 ذي القعدة عام (148 هجري ) في المدينة المنورة, وأمه تسمى نجمة من أفضل النساء عقلاً وتقوى، . ومدة إمامته عشرون عاماً من سنة 183 إلى 203 هجرية.
تذكره المصادر بأنه واصل جهاده العلمي ونشر علوم
أهل البيت وتجاهر بإمامته وخاصة في فترة الصراع بين الأمين والمأمون حيث كثر عدد الشيعة والعلويين، واظهر الكثير رفضهم وتمردهم على النظام العباسي. ولكن حاول المأمون امتصاص النقمة الشيعية بعد اتساع شهرة الإمام ونفوذه،وجعله ولي العهد من بعده.

انتهت زيارتنا للإمام وخرجنا من الحرم عائدين إلى الفندق والبرد يلحفنا حتى وقفنا أمام محل يبيع الحليب الطازج الحار فشربنا أكوابا سبعة ومنها إلى الفندق الذي سكنه هدوء الليل ,ونام الجميع إلى صباح اليوم التالي ... التفوا حول إفطار الفندق الذي تذمر منه قاسم لقلة أطباقه .. بالرغم من " القيمر " الطازج التي استلذت به .
وبعد آن انتهينا بحمد الله جمع "قاسم" حطة الرحلة ( - / 50 ديناراً ) لننطلق إلى مدينة ( طبرقه ) ركبنا الميني باص وكان قائده شاب إيراني لطيف المعشر .. لا يكل من السؤال والإجابة .. وصلنا بعد مدة إلى باحة سوق اتخذ شكل دائري من المحلات الجميلة التي احترفت بيع ما لذ وطاب من المكسرات والفواكه المجففة بأنواعها وأشكالها .
تجولت بعد ذلك مع "أبو يعقوب" نعم الرجل بأخلاقه وشهامته ,كم تنتشيني تلك الرحلات إلى القرى الصغيرة التي تطل بيوتها من على التلال العالية كأنها تراقب القادم والخارج ، وأشجار طرق القرية الباسقة بلونها الأخضر يستهوى الفؤاد متذكراً قصيد المتنبي" دنانير على الأرض ... ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان " ، انتهينا من القرية وانطلقنا إلى قرية أخرى مجاوره لها رأيت بيوتها الطينية التي صمدت سنينا ، دخلنا إلى طرقاتها وتوقف الباص فجأة ونزل الركب السبعة ولا أعلم أين وجهتنا ووقفنا عند مدخل أحاطه زواره من كل جانب وسألت فقالوا هذا مرقد الأمامي ناصر وياسر اخوان الإمام الرضا قتلا ودفنا بجوار بعضهما ، دخلنا للسلام عليهما ورأينا أفواج من حملات عربية ضايقت أخونا قاسم بصلاته... خرجنا ننتظر بالخارج .. وفجأة علا الصراخ من عتبة باب الضريح فضحك الجميع وقالوا أكيد " قاسم " " بالهوشة " وفعلا كان قاسم بطل المعركة .
انطلقنا إلى مطاعم منطقة "شانديز" ورأينا جموع الناس في يوم العطلة قد خرجوا من مدينة مشهد إلى البر والجبال ، كانوا يفترشون الأرض بجانب أي شجرة حتى لو كان ظلها قصيراً يشوون اللحم ويأكلون ما لذ وطاب .
اختلف الركب في أي المطاعم نأكل قاسم يقول :هذا المطعم مكانه أجمل وبويعقوب يرى الآخر أكله أطيب ,اتفقنا أخيرا على مطعم علا شانه بين الناس لمكانه وطيب مذاقه جلسنا على مصطبته العريضة ننتظر الأطباق المتنوعة, أكلناها حتى شبعنا لنحتسي الشاي في المطعم الجميل ذو الخضرة والماء والوجه الحسن !!!



سار الإخوة بصمت نحو حرم الإمام الذي مازا ل يعج بالناس وقد أخبرنا " بوعلى " عن أمر الزحمة بأنه آتى يوما في مناسبة دينية لم يستطع الدخول الحرم حتى عند الباب الخارجي بالرغم من حجم توسعته في السنوات الأخيرة في عهد الجمهورية الإسلامية التي بدأت بإنشاء عمارات ومعالـم جديدة ألحقت بالمشهد، وأحداث وترميم المحاريب والزوايا، وأحداث صحون وأروقة جديدة كذلك ألحقت بالمشهد المكتبات والمؤسسات والمراكز الثقافية وتـمّ تطوير مرافق الراحة والخدمات للزوار الذين يتوافدون يومياً على مرقد الإمام رضي الله عنه.
دخلنا عبر بوابة تفتيش أمنية ، أخبرت عن سبب ذلك بأن انفجارا قد وقع داخل المرقد قبل سنوات، اجتزنا الحاجز بسهولة ويسر وأودعنا أحذيتنا عند الأرفف الكثيرة .. ودخلنا إلى داخل المرقد ذو القبة الذهبية فذهلت من الزخرفة الزجاجية الجميلة .. وقف الإخوة عند مكتب النذور واخرجوا نقودهم وأمانه من أوصاهم .. ثم دلفنا بخشوع ورهبة إلى المكان ، صلوا قرب المرقد باتجاه قبلة المسلمين مكة المكرمة وجلست أنا متأملا ثم أخذت كتاب أدعية قرأت فيه آيات الذكر الحكيم ، ثم دنا مني "قاسم" وهمس قائلا : يا بو حسين إذا تحب أن تصلى بطريقتك لا بأس , فكثير من أهل السنة يأتوا للمكان ويصلون ... قلت : سوف اكتفى بتلاوة القرآن وأسأل الله العفو والمغفرة وفي مكان الضريح استذكرت ما كنت قد قرأته عن عمارة المراقد الإسلامية التي تطورت عناصرها المعمارية من قباب بسيطة على أضرحة الأئمة والأولياء إلى قباب ذات أشكال متشابهة بين بيضوية وبصلية ونصف اهليجية ترتكز على جزء اسطواني غير عريض. تكون القبة عادة من جزأين من البناء بينهما سلم للصعود إلى أعلى القبة كما يوجد في كل قبة باب أو أكثر. وفي الجزء الأعلى المدبب توجد (رمانة) ذات كؤوس وهي إما من الذهب أو غيره من المعادن الثمينة.وفي بعض المراقد تكون على شكل كف, وبقرب الرمانة يوجد علم اخضر يبدل بالأسود في محرم وصفر والمناسبات المحزنة. والقبة إما أن تكون مطلية بمادة معينة كالاسمنت والجص في المراقد البسيطة العمارة، أو مطلية بالقاشاني الملون والمزخرف في المراقد المتوسطة العمارة، أو مطلية بالذهب في المراقد الضخمة العمارة. والطلاء يبدل كل عدة سنوات بسبب تعرضه الدائم للأحوال الجوية.
وتتميز المراقد الكبيرة وخاصة لائمة أهل البيت رضي الله عنهم بما سمي بالحرم وهو البناء الذي يحيط بالضريح حاملاً القبة والمآذن، مزدانا بآية من آيات الفن المعماري سواء كان ذلك على شكل قاشاني وفسيفساء أو رخام آجر مزخرف أو مرايا مزخرفة. كما وتعلق فيه التحف الثمينة من ثريات بديعة الصنع وصور وزخارف خشبية ومجوهرات وحلي كما أن أرضه تفرش بالمنسوجات الثمينة بالرغم من إنها مرصوفة بأغلى أنواع الرخام المصقول.
كما توجد الملابن ومفردها (ملبن) وهو الجزء الهندسي الذي يغلف القبر ويطلق عليه محلياً اسم (الشباك) اذ انه يكون مشبكاً بطريقة زخرفية معينة. عرفت الملابن أولا مصنوعة من الخشب وخاصة خشب الساج وبعدها أصبح يصنع من المعادن كالبرونز أو النحاس. ثم صنعت الأضرحة من الفضة ثم نقشوها وطعموها بالذهب. ومما يلاحظ هنا أن النقش بالكتابة مشتهر على الملابن وخاصة بالخط الفارسي والسبب في ذلك يعود إلى أن هذه الأضرحة تصنع وتنقش في إيران، بمدينة أصفهان. وتشمل هذه الكتابات الأدعية والمدائح للائمة، وغيرها من الحكم والأقوال وأبيات الشعر أما زخرفته فبالرغم من إنها قليلة يلاحظ شدة اهتمام الصانع بها بحيث يمكن اعتبارها من فرائد الزخرفة الإسلامية. فمثلاً ملبن الإمام علي يعتبر غاية في الفخامة والروعة وبقدر ما فيه من فضة مليوني مثقال، وما فيه من ذهب عشرة آلاف مثقال، أما وحدة الإنشاء الزخرفية للملبن فتكون بتعامد قضبان فضة داخل كرات من الفضة أيضا. وكل ملبن يتكون من قطع وله أبواب، ربما كل باب منه بقطعة أو قطعتين ومنها له أبواب كبيرة تتكون من قطعة واحدة مزخرفة أو مكتوبة أو مطعمة بالذهب ذي الأشكال الهندسية المختلفة. وفي الملابن سقف مزخرف هو الآخر بطريقة مختلفة وفي بعض المراقد تعلق على الملبن قطعة نفيسة تنسج خصيصاً لوضعها على الملابن، يطلق عليها اسم (ستر) وهي أيضا ذات زخارف نسيجية ورسوم.أما قبور الأئمة والأولياء التي تضمها الأضرحة فتغلق عادة بصندوق خشبي أحيانا يرصع بالعاج وتنقش عليه الآيات القرآنية الكريمة وأسماء الجلالة المقدسة، كما في صندوق قبر الإمام علي كرم الله وجهه.



انطلق الركب السبعة "بوعلي" كبيرنا و"بهمن" صاحبنا و"بو يعقوب" أنشطنا والدكتور المستعجل دوماً وأبداً و"بوأحمد" الهادئ الضاحك وأنا الأصغر حجما وسنا يقودنا دليلنا قاسم إلى الأسواق القريبة التي كانت زاخرة بالبضائع الإيرانية فإيران لا تستورد شيئا فأغلب ما رأيناه كان صناعة إيرانية ذات جودة عالية وكانت تلك مفخرة يحسب لها برغم سنوات الحرب والحصار ..
قضى النهار وأسدل الليل ستاره والركب المتسوق لم يمل من التسوق بالرغم من ساعة إغلاق الأسواق أبوابها ليشعر الجميع بعد ذلك بالجوع فاحتاروا في اختيار المطعم حتى قادنا هذه المرة "بو يعقوب" إلي مطعم يعرفه منذ رحلته السابقة يشوي الكبدة الطازجة ذهبنا إليه لكننا لم نجد مكانا نظيفا نجلس عليه؟؟ فاثر الجميع أن يأكل الكبدة وقوفا وعلى قارعة الطريق .. أكلنا كثيرا حتى قام أحدنا بعد ما أكلنا فكانت 90 سيخاً من الكبدة المشوية....
عدنا إلى الفندق واقتربت الساعة الثانية عشرة ليلاً وتجهز الجميع لزيارة مرقد الإمام والذي تذكره المصادر بأنه كان سابقاً داراً لحميد بن قحطبة الطائي أحد قواد أبي مسلم الخراساني، وعندما توفي هارون الرشيد عام 193هـ دفن في هذا المكان وأقام ولده المأمون على قبره قبة سميّت فيما بعد (القبة الهارونية). ولما توفي الإمام مسموماً جيء بجثمانه ودفن بالقرب من قبر هارون الرشيد، غير أنَّ هذه القبة دمّرت عام 380هـ على يد الأمير سبكتكين تدميراً كاملاً، فأصبح مرقد الإمام الرضا المزار الوحيد في خراسان الذي حظي بالتقديس والإكبار حيث وضع السلطان مسعود بن سبكتكين على القبر الشريف ضريحاً مذهباً لتمييز قبر الإمام ,ثم
جدّد أبو طاهر شرف الدين القمي الوزير الشيعي للسلطان سنجر السلجوقي قبة المرقد ولـم تزل عمارته قائمة إلى أن خربها التتر، ولكن السلطان محمَّد خدا بنده حفيد هولاكو قام بتجديد عمارة المرقد فيما بعد.
وفي عهد السلطان ميرزا شاه رخ الكوركاني تـمّ في سنة 809هـ تعمير المشهد، وقامت زوجته الأميرة كوهر شاد بالعناية بالمشهد وبناء المسجد المتصل بالمشهد والمسمى باسمها.وفي سنة 932هـ أمر الشاه طهماسب الصفوي بتذهيب قبة المرقد، كما أقام منارة مذهبة ونصب حول المرقد ضريحاً من الذهب.وفي سنة 1010هـ قام الشاه عباس الكبير بإعمار المشهد وتوسيع الصحن وتذهيب قبة المرقد وفي سنة 1020هـ بنى الإيوان الشمال والشرقي والغربي.وفي سنة 1086هـ أمر الشاه سليمان الصفوي بتعمير قبة المشهد وتذهيبها على إثر سقوطها بسبب الزلزال الذي حدث سنة 1084هـ.وفي سنة 1153هـ اعتنى نادر شاه بالمشهد وقدم للروضة المطهرة قنديلاً من الذهب المرصع مع القفل الذهبي المرصع.وفي عهد فتح علي شاه القاجاري بوشر في سنة 1223هـ بتشييد صحن المشهد الجديد.وفي عهد محمَّد شاه تـمّ في سنة 1260هـ تزيينه بالقاشاني وأكمل ناصر الدين شاه تذهيب إيوان الصحن الذي بناه فتح علي شاه.وفي سنة 1401هـ



انطلق الركب السبعة من مطار الكويت إلي مدينة مشهد الإيرانية التي تقع في أقاصي إقليم خراسان , رتبها لنا مشكورا صاحبنا الفنان "بومحمد"، ركبنا الطائرة الإيرانية المتهالكة بفضل الاستعمال وكان اغلب المسافرون من الكويتيين التي بانت عليهم مظاهر النعمة دون سواهم فلله الحمد والمنة, استغرقت الرحلة ساعتين من الزمن قضيتها بالحديث مع " أبو يعقوب " تناولنا هم الانتخابات وما آلت إليه الأمور من صراع غير محمود بين الحكومة ونواب مجلس الأمة السابق وأيقنا أن الأمر القادم هو أسوأ ماهو عليه إن لم يعالج الأمر بحكمة...
حطت الطائرة بالسلامة في المطار الصغير وصلنا الساعة الثالثة عصرا بتوقيت مشهد أو "طوس" كما كانت تسمى قديما، فهي من كبريات مدن
إيران ومن أعظم مدن خراسان، يحدها من الشمال والشمال الشرقي تركمنستان، ومن الشرق أفغانستان ومدينة هراة، ومن الغرب مدينة شاهرود، ومن الجنوب مدينة بيرجند.فتحت في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فيها الكثير من الآثار والمزارات والمقامات وأهمها مرقد الإمام علي بن موسى الرضا رضي الله عنه، ومشهده الذي به سميت تلك المدينة مشهدا.
وصلنا وكان الجو جميلا ، وقائد الركب "بومحمد" يوجهنا إلي أصحاب التاكسي حيث الموعد عند الفندق ، ركب الجميع وركبت أنا معه .. وفي الطريق قال : يا أبو حسين أود أن أخبرك بالبداية عن أمر لن تشاهده بأي مدينة عربية ، قلت له : وماهو يا "بومحمد" قال :نظافة شوارع مدينة مشهد فلا يوجد ورقة منديل أو قرطاس مرمي على الأرض ، صدق بومحمد في قوله فانا طوال الطريق ألتفت إلى ما قاله ....
وصلنا إلى الفندق القريب من الحرم "الرضوي" , حط الأخوة رحالهم في الغرف الواسعة النظيفة حيث كان الفندق من استثمار شخص كويتي عرف حبه لمشهد وزيارة الأمام الرضا ... قال "بومحمد": نرتاح قليلاً ثم ننطلق إلي برنامجنا .. ارتحنا ساعتين من الزمن لنلبي بعدها دعوة أبو يعقوب إلى شرب قهوته التركية.. طيبة كانت كصاحبها .
أين نبدأ يا "قاسمللو" .. هكذا خاطبوا "بو محمد" ؟!!! .
قال قاسم الذي أحب أن يتولى مسؤولية الرحلات الجماعية منذ أن كان عمره (16) عاماً : نذهب إلى المطعم لنأكل ما يسد الجوع "تصبيرة" لحين وجبة العشاء ... قال الآخر: لا تصبيرتك سوف تفسد عشاؤنا وتثقل بطوننا عن زيارة حرم الإمام بعد ذلك ... قول هنا وقول هناك .. اتفقوا على الساندويتشات ... أكلناها من مطعم قريب كان إعلانه مضحكا وغريبا فهو عبارة عن سندويشة وضع بها يقرة كاملة مذبوحة والدماء منها تسيل من رقبتها.. ضحك الجميع من الإعلان وصاحب المحل ضحك معنا أيضا!!! .



أخرج السيجارة من علبتها وأشعلها بتروي وسار بتثاقل نحوها ..وقف أمامها ينفث الدخان الابيض ينظر بازدراء الى أوراقها المتساقطة غير عابئ بنظراتها اليه!! لكنها حركت أحداغصانها الملتوية تنكش شعره الكثيف وقالت : لقد شاب شعرك ..نظراليها بطرف عينه وأزاح بيده غصنها الملتوي دوما وأبدا وقال بصوت مبحوح: الا تخجلين !!..الا تعقلين!! , ردت عليه بنبرة صوتها الرجولي : ماذا تقول .قال : أقول لك ما تسمعين ..الا تكفي عن ملاحقة ذلك المسكين ,ماذا تريدين منه بعد أن حطمتي مستقبله وسرقت سنوات شبابه ..اتركيه يعيش بسلام كبقية خلق الله.
ردت عليه غاضبة : ومن قال لك انني أطارده هل أخبرك ذلك "الموسوس" الذي احترف ضرب الاخماس بالاسداس لا يا صاحبي لا أطارده ولا أفكر فيه لحظه فقد أخرجته من قلبي الى الابد ..
نظر اليها باستهزاء وقال : على من تضحكين ,علي أنا ..لقد خبرتك منذ سنين طوال ورأيتك كيف تصادي الطيور الوحيدة باغصانك "العاتكة".. اما حكاية انك اخرجتيه من قلبك فما هي الا خديعة له ولنا وانك تنتظرين ساعة الانقضاض عليه بصقورك حتى يقر المسكين باقترانك الغاصب له .. فالطير أدرك منذ زمن انك لن تتخلي عن حلمك المتصابي !! وانه أتاني يوما يحمل ورقتك الساقطة في " الشروق " البعيد تتهمينه بسرقة الثمر فخاف على نفسه من هذا الكيد فصبر محتسبا في عشه القديم حتى اخرجيته منذ سنوات صاغرا أمام أعين الناس التي استنكفت عقوقه ونكرانه لاهله ,لا لوم على أهل الطين ان جهلوا حقيقة ما جرى ويجري حين هددتي جميع أهل بيته بكشف عوراتهم ان اقتربوا منه ليبنوا له عشا أو يفرح يوما ..أردت الانتقام منه بكل السبل لأنه رفض كل محاولات اغرائك له بمالك المسروق وارضك المهبولة وملايين أسمهك الوطنية ومناصب الذل التي روجتيها له, لكنه ارتضى شيئا واحدا وهو ما حققه ان يبتعد عنك وعن وجهك الملعون لان البعد عنك غنيمة ما بعدها غنيمة !! , سعيت بكل مكر الى توريطه بشر الاعمال حتى ترصده العيون بتهمة التعاون والتآمر ,وسلطتي عليه في وحدته ذلك "الغراب الوافد" التي بدت عليه نعمة ما انفقتي عليه جزاء ما احترف من النقر عليه ليلا ليقضي مضجعه وليشبع رغباتك السادية ؟؟ لم تكتفي بذلك بل امطرتيه بوابل من الرصاص حين قرأ باعلى صوته سورة يوسف عليه السلام !! ما اردتي له خيرا قط ؟
نظرت اليه مستغربة كيف عرف صديقها الأديب كل ما كانت تخطط له , ورفعت أغصانها عالية تزمجر بصوت غريب كأنها تمارس طقسا سحريا اشتهرت به لف حولها غبار "اصفر" متطاير هنا وهناك , نظر اليها ورمى سيجارته وجرى مهرولا يستعيذ بالله من شرها ويتمتم "اللهم نجني ونجي الطير المسكين " "اللهم نجني ونجي الطير المسكين ".



في عام 1996 عدت من حج بيت الله الحرام وقد أنهكتني "الكحة" المفاجئة التي لم تنفع معها أدوية البعثة الكويتية أو مستوصف الفيحاء, فنشدت عيادة الدكتور احمد الخطيب لآخذ "إبرته" وأشفى من علة لم تشفى. دخلت العيادة في مبناها القديم بمنطقة حولي وقد سبقني في حجز الدور عدد ليس بالقليل من مختلف الجنسيات ,انتظرت طويلا والسعال لا يفارقني لحظة, حتى نادوا باسمي فدخلت على الدكتور "احمد" حييته فحياني وشرحت له مصابي, فكشف علي وكتب بهدوء وصفة دواءه وقال:إن لم ينفع معك الدواء خلال خمسة أيام راجعني ..مرت الأيام الخمسة "والكحة" أسوا مما كانت عليه, فلم أعرف من أمرها سكون حال أو هدوء بال لأطرق باب العيادة مرة أخرى وأخبرت الدكتور عما جرى فقال : يا أخ علي اذهب فورا وأعمل لي أشعة للصدر بالمستشفى "الفلاني" فهم أسرع من الحكومة ذهبت إلى المستشفى وعملت الممرضة البلغارية الأشعة وبعد أن أخرجتها تغير لون وجهها وانطلقت مسرعة إلى عيادة الدكتور القريبة الذي آتى معها على عجل وقال بصوت مرتبك :خذ التقرير والأشعة واذهب إلى الدكتور " احمد " فان لم يعالجك تعال هنا للعلاج فورا؟؟
أمسكت التقرير بيد راجفة وفكر غم عليه السواد , فما حكاية صدري المريض وما سر قولهم :تعال لنا فورا لنعالجك ؟؟وصلت العيادة ودخلت على الدكتور احمد دون أن انتظر, فقد أوصى الممرض بان لا أقف بالدور, امسك التقرير وقراه ثم اخرج الأشعة ونظر لها مليا وكتب دون تردد وصفة علاجه وقال :هذا دواء غالي الثمن لكن عليك بشراءه وأخذه كاملا وراجعني بعد أسبوع ولا تدفع رسوما للمراجعة, شكرت الدكتور احمد وغادرت , وانتظمت بأخذ الدواء ,ولمست بفضل الله الشفاء حتى انقطعت "الكحة " وعدت الدكتور "احمد " فكشف على صدري واطمئن على حالي وقال أوصيك بان لا تقرب مكيف الهواء البارد فحساسية الصدر عندك كبيرة .
حكاية قصيرة تشرفت بالعلاج على يد أول طبيب كويتي,تذكره المصادر بأنه ولد عام 1927 في فريج "الدهله" قرب سوق "واجف" , سافر بعد أن شد عوده إلى لبنان في منتصف الأربعينات لدراسة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت وهناك تفتحت عيناه على خليط متعدد الأعراق والثقافات كان له الأثر في أن يستمع باهتمام إلى شروح حلقات الدكتور قسطنطين زريق عن القومية العربية التي بذرت فيه نشاطه السياسي حين أسس مع زملاء المهنة " حركة القوميين العرب" التي لعبت دورا بارزا في إثراء العمل السياسي في المنطقة العربية خلال عقدي الخمسينيات والستينات.
عاد بعد الدراسة إلى الكويت في منتصف الخمسينات وعمل طبيبا في
المستشفى الأميري (الحكومي), وبعدها فتح عيادة خاصة به , لعب الدكتور أحمد محمد الخطيب دورا بارزا في المجالس النيابية والحركات العمالية النقابية وخاض ما سمي بمعركة المجلس التأسيسي ومشروع دستور دولة الكويت الذي رآه الدكتور في "مذكراته" «الكويت: من الإمارة إلى الدولة ذكريات العمل الوطني والقومي» نضالا شعبيا ساهم دون شك في انتقال الكويت من إمارة إلى دولة ديمقراطية يحكمها دستور وقانون . كشف في مذكراته الطويلة والتي نشرتها "الجريدة" عن عمق علاقاته مع الزعماء العرب وكيف كان يستثمرها دوما لصالح وطنه الصغير, فذهب يوما يقابل صديقه الزعيم المصري جمال عبدالناصر مناشدا إياه التدخل لدرء خطر "قاسم" العراق عندما طالب بضم الكويت إلى جمهوريته فتصدى "عبدالناصر" ومعه العرب الشرفاء لأمر عبدالكريم قاسم وقاموا بواجب العروبة تجاه حماية الكويت والذود عنها .
كتب الكثير في "مذكراته" لكنه أشار في الجزء الثاني منها وتحت عنوان محبط للغاية "الكويت: من الدولة إلى الإمارة" إلى أمر في غاية الخطورة إلى ما سماه بقوى "لا تريد القانون المدني بل تريد العودة بالكويت إلى الوراء، وتريد مصالحها الخاصّة قبل مصلحة المجتمع والوطن والشعب. "فتسعى بكل الطرق "لإلغاء الدستور، والقانون، و جعل طريقة تطبيقهما تتعارض مع ما يريده الناس بما يدفعهم للابتعاد عن المشاركة في الحياة العامة، وفي الانتخابات، ويدفع قوى المجتمع الحيّة والطامحة إلى تطوير الكويت إلى الانكفاء، وهو ما شهدناه من خلال النسب المتدنيّة للمشاركة في الانتخابات، ومن خلال تكتل الناس على أساس انتماءات ما قبل الدولة الجامعة، أي الانتماء القبلي أو الطائفي، ومن خلال الحديث المتزايد عن الدور السلبي لمجلس النواب".
"ابوأريج " أطال الله بعمره يدق ناقوس الخطر محذرا من الآتي الذي سيسلب الأفواه حريتها وإيمانها بريادة "درة الخليج" فهل نحن له منصتون لصوته ؟؟






بدأ التصوير واستعمال الغرفة المظلمة من قبل الفنانين الايطاليين في القرن السادس عشر حيث أن عدداً كبيراً من الرسامين المشهورين قد استعملوها من بينهم الفنان ليوناردو دافنشي الذي طور هذه الفكرة وأصبحت صندوقاً به ثقب في احد جوانبه يستخدمه الفنانون في إعداد اللوحات والرسوم .

ليدخل بعد ذلك العالم كاردوي العدسة البصرية فكانت تستخدم لإصلاح أخطاء النظر والتصوير إلى أن تطور التصوير في اختراع الفيلم والصورة المطبوعة .

وتذكر المصادر أن بدايات البورتريه الفوتوغرافي كانت متواضعة فالأشخاص يصورون فوتوغرافيا كانوا يقفون أو يجلسون أمام الفنان وكاميرته بدون حراك لنحو من عشر إلى عشرين دقيقة لانتهاء تصوير البورتريه .. ؟!! .
إلا أن الثورة الفوتوغرافية قد أثرت وبشكل كبير على فناني البورتريه التقليديين ( التشكيليين ) فأصبح الجدل حول حقيقة البورتريه والشبه الفيزيقي أو ما يسمى بمطابقة الأصل .... ؟!!

فالبورتريه التقليدي يمنحنا كما يذكر أهل الاختصاص معرفة أمور كثيرة وليس مظهر الإنسان فقط ، بل حتى أفكاره وروحه الداخلية ... ؟!! فالفنان يرى أكثر من الآخرين ، فرائعة دافنشي التي عرفت بالموناليزا أكدت ودلت على ذلك الطرح فما زالت ابتسامة ونظرة السيدة الإيطالية ليزا الغامضتين عنوان بحث ونقاش وتاريخ ساهم في خلود اللوحة وفنانها الكبير دافنشي ، فاللوحة بعد أن رفض فرانشيسكو زوج الموناليزا استلامها بيعت إلى ملك فرنسا فرنسيس الأول وعلقت بقصر فرساي وبعد الثورة علقها نابليون بونابرت في غرفة نومه ثم عرضت بمتحف اللوفر الفرنسي إلى أن سرقها شاب فرنسي عام 1911م حبا بحبيبته المتوفيه والتي وجدها في لوحة الموناليزا فباعها بعد عامين لفنان ايطالي الذي أدرك الجريمة فابلغ السلطات الايطالية بحقيقة اللوحة المسروقة فقبض على اللص ، وأودعت اللوحة في متحف جاليري بايطاليا فثارت فرنسا باعتبار أنها حق مكتسب لها ، ودارت المفاوضات بعد ان كادت تقطع العلاقات الدبلوماسية لولا رضوخ ايطاليا أخيرا على إعادة اللوحة وسارقها إلى باريس ، فكان يوم عيد للفرنسيين والنقاد الذين أكدوا أن اللوحة لم تخلد الشخصية المرسومة فقط وإنما خلدت اسم دافنشي كفنان .

لقد قيل أن البورتريه بعث الأمل في دحر الموت ... وان نهاية الحياة هو بداية الفن .... فلم يبقى من الأقوام السالفة إلا الأثر ولم تبقى من الأجساد الفانية إلا صورتها .... هكذا أدرك العالم قيمة الفن في تخليد موتاه وليس أحياءه .




كان لتسابق أهل الفن نحو البورتريه أن أعلن يوماً في مدينة فيراري عام 1441م مسابقة بين المصورين لعمل البورتريه للأمير ليونيللو ديسنه ليسود نقاش بين الأوساط الثقافية عن ضرورة الشبه بين الأصل والصورة بعد أن سادت تجربة فناني الانتيك التي استثنت كل ما هو قبيح في الأصل ليدعم رأيهم الفنان الكبير ميكال انجلو الذي مضى إلى أبعد من ذلك حين اعتبر الشبه في البورتريه هو الاخلاص للشخصية والتعبير عنها وليس الشبه الفيزيقي ... !!
إلا أن رأي الفنان غابرييل باليوتي كان مخالفا تماما لهذا التوجه محذرا من التأثير المصطنع للتجميل باسم أهداف عليا ..... لكن تحذيراته لم تلق أذانا صاغية فلقد انتصر قانون السوق الذي يلبي رغبات الزبون في المظهر الذي يريده ... ؟!! . ليتوقف الجدل الدائر عند حدوده في القرن التاسع عشر حين أتاح اختراع الفوتوغرافيا بالانقلاب الذي حدث في فن البورتريه حيث أتاح لجميع الفئات والطبقات أن تمتلك صورة شخصية بعدما كان الأمر محصوراً على ميسوري الحال .

الفوتوغراف أو التصوير حيث تعود بدايته كما يذكر المصور العماني عبدالمنعم الحسني في بحثه " التصوير الضوئي " إلى ملاحظة القدماء عندما لاحظوا ظاهرة الأشياء عند انعكاس الضوء عليها ومن ثم تم اكتشاف الغرفة المظلمة التي مازال الجدل قائما حول من اكتشفها ، فمنهم من قال إنه العالم أرسطو ومنهم من قال عالم الفلك العربي الحسن ابن الهيثم ... إلا أن الأسطورة اليونانية تقول أن أول صورة وفي ذات الوقت أول بورتريه هي ظل رجل رسمته حبيبته على الجدار في ضوء شمعة !!! .






عند البحث التاريخي لأمر فن البورتريه كنافذة خلود الأشخاص فقد أمر الرومان بنحت بورتريهات الوجهاء والأدباء والعظماء في ما يسمى بغاليرهات الأسلاف لتستمر تلك العادة في الحقبة المسيحية فقد كانت عائلة المسيح زينه قلاع القرون الوسطى وتصورها ... حيث أوصى عام 1355م القيصر شارل الرابع برسم شجرة أسرة لكسمبورغ التي كان ينحدر منها ليسرى تقليده بعد ذلك بين حكام أوروبا الذين ابقوا صورهم في الكنائس كما فعل ملوك سومر وآشور أرادوا بذلك أن يكونوا تحت رعاية الرب وأن تكون حياتهم على الأرض والأخرى الأبدية موضع الاهتمام .

ويذكر الباحث البولندي فويتشيخ شتابا في بحثه القيم فن الصورة الشخصية ( بتصرف ) : " أن شيوع الصورة الشخصية في المشهد ذي المضمون الديني يؤكد على الأهمية الفائقة التي علقت على اللوحة كدليل على المكانة الاجتماعية وضمان الوقوف في الجانب الصحيح في يوم القيامة أيضاً ، كذلك كان الغرض من البورتريه أن يكون وثيقة قانونية ودليلاً للتحقق من هوية الشخص أو مصداقا على حدث معين أو مواقع ما ... حيث وفي أقدم المخطوطات نجد صور للمؤلفين التي هي بمثابة تواقيع وضعوها تحت أعمالهم وصورة الحاكم التي اعتبرت نوعا من المصادقة على الوثائق المدونة .. ونلقاها أيضاً في الأختام التي استمدت تاريخها من العصور القديمة ..... ويبين فويتشيخ شتابا أن لحكام أوروبا هوس بفن البورتريه ... فقد أوصى ملك انجلترا هنري الثامن أحد المصورين بالتوجه إلى القارة وعمل بورتريهات للأميرات المرشحات للزواج منه ....؟!! في حين اختار شارل الخامس زوجته ايزابيل البافارية من بين ثلاث مرشحات بعد أن شاهد صورهن التي كان قد أوصى بعملها ، في حين أصبح فن البورتريه بمثابة وثيقة زواج ... فقد أصر ارنولفيني أحد تجار عصر النهضة على رسم لوحة هو وزوجته في مخدعهما كإعلان زواجهما .... ؟!! .



الخلود تلك الكلمة السحرية التي غوت آدم عليه السلام ، فدعوة إبليس الكاذبة له " ألا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " أدت إلى سوء العاقبة والخروج من نعيم الجنة إلى شقاء الأرض لتصبح " الكلمة " فكرة وعنوان بحث أمام حقيقة الموت في سائر الديانات السابقة وخاصة الوثنية التي أوغلت جهلاً في عبادة الوثن وخديعة السحر .

لتكشف المصادر أن عبادة الأسلاف في الألف السابع قبل الميلاد لدى القبائل البدائية ترى أن الميت لا بد من حضوره الدائم في جثة محنطة أو منحوتة مزينة تكملها جمجمته الحقيقية التي تحلى بالحلي والأصداف ومختلف رسوم الوشم تعكس صورة الميت ، طقس اعتبر أقدم ما أكتشفه العالم في فن البورتريه أو الصورة الشخصية .
والأمر كذلك في مصر القديمة بحضارتها الكبيرة ، أعتقد فرعون واهما أن روحه سوف تعود من رحلة طويلة إلى مكان سكنها في تابوت يقلد شكل جسده بوجه مرسوم مثبت على وجه مومياء ، في اعتقاد ساد لمن بعده في وجوه الفيوم المكتشفة عام 1888م حيث رسمت وجوه قدماء المصريين قبل وفاتهم لتوضع مع رفاتهم حتى يمكن التعرف على أصحابها وقت البعث .

والأمر كذلك يتكرر في العصور الوسطى حيث كانت مراسيم دفن الميت تقدم على أنه مازال قيد الحياة ، فقد كان يحمل في الجنازة نحت من الخشب أو الشمع أو الكلس يمثل إنسان في أحلى حلة كان يرتديها في الحياة أما الوجه فقد عمل منه قناع مأخوذ من الأصل تماما ..... طقوس وثنية اعتمدت على مبدأ إنقاذ الروح وابتعاث الجسد بعد الموت ، ومبدأ استمر أمره على أن تقليد الحياة بعد الممات يتم من خلال الحاضر عبر التمثيل النحتي والرسم المتقن على شواهد القبور ظناً أن يضمن الخلود للحياة الأبدية أو انبعاثاً سحرياً من خلال الفن ....؟



اتصل بي ذلك المسؤول يوما وقال: لي أخ علي لدى مشروع لا يصلح لأمره إلا أنت ، قلت: خير إنشاء الله , قال: مر علي بالمكتب لأشرح لك ... قدمت إلى مكتبه الذي أعد له خصيصا بعد أن قطع دراسته بالولايات المتحدة ... وقال بصوته الهادئ: أخي الكريم هناك عرض بالتعاون مع شركة المشروعات السياحية باستغلال مساحات على الواجهة البحرية لإقامة مصليات على الواجهة البحرية ؟؟
قلت له : الأمر جميل لكن ما دوري أنا بالموضوع ؟؟, قال :أنت فنان ومهتم بالمساجد القديمة والموضوع سيكون جدير لك بمتابعته ليتم إخراجه بالشكل المشرف لمؤسسة بيت الزكاة ...!؟؟
قلت له : لا بأس ومن أين تريد أن نبدأ بالمشروع ؟ قال :غداً سوف نقوم بجولة على الواجهة البحرية للإطلاع على ساحات المصليات وبعدها نذهب سوية للالتقاء بمدير المشروع بالشركة ..
وجاء الغد الجميل في شتاء عام 1994 وانطلقنا سوية وقمنا بمعاينة مساحة المصليات ثم دلفنا إلى مقر شركة المشروعات السياحية القريب من الواجهة البحرية واجتمعنا بالمهندس عبد الله السهلان ، ودار النقاش بيننا وبينه حول تصميم المصلى فاقترحت أن يكون أمره مستمداً من ثوابت عمارة المساجد القديمة في الكويت والواجهة البحرية وهي فرصة لنا أن نقدم لرواد الواجهة البحرية صورة من عمارة الكويت القديمة ، فاستغرب المهندس السهلان وقال :كيف ذلك ؟؟ هل تريد بناء مسجد من الطين على الواجهة الحديثة ابتسمت له ومازحته: ولم لا ... قال: مستحيل مساحات المصليات صغيرة والواجهة حديثة بتصميمها فهذا يخل بالشكل العمراني ، قلت له لن نبني مسجداً من الطين ولكن نأخذ من ثوابت عمارة المساجد القديمة بما ينسجم مع الشكل المعماري للواجهة ، قال: اشرح لي ؟ قلت: له مساحة المصلى صغيرة لا تتجاوز (5 × 5) أمتار وهي المساحة التي كانت تماثل مساحة بعض المساجد القديمة .. وحتى لا يضيع صف للصلاة لمن يؤوم الجماعة سنعمل له محراباً يكفيه ، قال: فكرة حسنة هناك إمكانية بتنفيذها ، قلت: يكون شكل الأبواب والنوافذ الخشبية مصنوعة من الساج ، قال: لا بأس أيضا الأمر مقدور عليه ، قلت له: نضع منارة صغيرة مستمدة من تصميم مساجدنا القديمة ... ، قال: هذا صعب نحن نبني مصلى لا مسجد ,المنارة تعطي إيحاء المسجد ... صمت لساني ولم استطع الرد عليه فهو أخبر مني بالهندسة والعمران ، لكنني ألهمت بالإجابة فقلت له : يا أخ عبد الله من يسير بسيارته ويحين عليه وقت الصلاة لا يدرك أن هناك مصلى من ارتفاع الأشجار في الواجهة هنا صمت أيضا المهندس عبد الله وقال: فكرتك صحيحة لكن المنارة سوف تكون صغيرة بما يتلاءم مع شكل المصلى ... قلت :هذا ما أردته ..؟؟
وانتهى الاجتماع وكلفت بمتابعة أمر تصاميم المساجد مع الشركات التي ستتقدم بعروض أسعارها . وكانت فرصة لي لأخذ مهندسي تلك الشركات بجولة معي في السيارة حول المساجد القديمة لاستلهام ثوابت عمارتها الجميلة حتى وفقنا إلى التصميم الحالي , فرحت بانجاز المشروع وفرح أهل الصلاة بتلك المصليات , والحمدلله رب العالمين .



محبة الناس للعبد نعمة عظيمة, لأنها من علامات رضى رب العالمين عليه, " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " (مريم :96), فالله تبارك تعالى كما يقول ابن كثير في تفسيره للآية " يغرس لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَات لَهُمْ فِي قُلُوب عِبَاده مَحَبَّة وَمَوَدَّة وَهَذَا أَمْر لا بُدّ مِنْهُ ولا مَحِيد عَنْهُ وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الأحاديث الصَّحِيحَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّه إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَقَالَ يَا جِبْرِيل إِنِّي أُحِبّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبّهُ جِبْرِيل قَالَ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْل السَّمَاء إِنَّ اللَّه يُحِبّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ قَالَ فَيُحِبّهُ أَهْل السَّمَاء ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الأرض وَإِنَّ اللَّه إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَقَالَ يَا جِبْرِيل إِنِّي أُبْغِض فلانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضهُ جِبْرِيل ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْل السَّمَاء إِنَّ اللَّه يُبْغِض فلانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُبْغِضهُ أَهْل السَّمَاء ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْبَغْضَاء فِي الْأَرْض " .
فعباد الله الصالحين لا يغيرهم جاه أو منصب عن طاعة الله عزوجل وخدمة العباد , بنفس راضية مرضية لا تبتغي الجزاء ولا الشكور وإنما وجه الله تعالى ورضوانه , فما زاد تواضعهم إلا رفعة بين الناس وود من الله الكبير المتعال بالرزق الحسن واللسان الصادق كما اخبر ابن عباس رضي الله عنه .
والشيخ نواف الأحمد الصباح أمد الله بعمره من الناس الذي تذكر محامد أخلاقه الكريمة وخاصة من قبل اؤلئك الذين عايشوه أو جاوروه سكنا أو عملا كوزير المواصلات الأسبق حبيب جوهر حيات الذي كان جارا له في «براحة» الدبوس فيقول: «كنا نذهب للمدرسة أنا وسمو ولي العهد والشيخ خالد الأحمد وكان سموه يصغرني بسنه والشيخ خالد كان في ذات الفصل الذي أدرس فيه، فكان سموه يتميز بدماثة الخلق وحسن الطاعة لمدرسيه وزملائه الأكبر وكان هادئ الطباع وحليما منذ نشأته وكنا نقطع طريق المدرسة سيرا على الأقدام جيئة وذهابا».
فكانت للنشأة المباركة في بيت أبيه الشيخ
أحمد الجابر الصباح أمير الكويت العاشر, ثمراً جناه كل من تعامل مع الشيخ نواف سواء على الصعيد الشخصي أو في تدرجه الوظيفي منذ أن كان محافظا لمحافظة حولي عام 1962. ثم وزيراً للداخلية عام 1978 ثم وزيراً للدفاع , ثم وزيرا للشؤون الاجتماعية والعمل ، وبعدها عام 1994 تم تعينه نائباً لرئيس الحرس الوطني. وفي 13 يوليو من عام2003 أصبح وزيراً لوزارة الداخلية مره أخرى، وبعد ذلك وبنفس العام صدر مرسوم أميري بتعيينه نائباً أول لرئيس مجلس الوزراء حتى اجمع عليه أهل الكويت في مبايعة برلمانهم الموقر له ولياً للعهد عام 2006.
ولد عام
1937 ,وتلقى تعليمه بالمدارس النظامية السائده آنذاك,استمد من معلمه الكبير الشيخ جابر الأحمد الصباح طيب الله ثراه كثير من صفاته فهو بالنسبة إليه القدوة الحسنة , يحب الكويت وأهلها ولا يطيق السفر عنها بعيدا , يبتدئ برنامجه اليومي بصلاة الفجر وبعد الفطور يجلس يتابع أخبار الجرائد والصحف اليومية ، ثم يتوجه لحضور بعض المناسبات كعيادة مريض أو تقديم واجب عزاء أو زيارة صديق ثم الذهاب لمكتبه يقضي للناس حوائجهم.وفقه الله إلى ما يحبه ويرضاه.



تعتبر مئذنة جامع عقبة من أجمل المآذن التي بناها المسلمون في أفريقيا. وتعد جميع المآذن التي بنيت بعدها في بلاد المغرب العربي على شاكلتها ولا تختلف عنها إلا قليلا، ومن المآذن التي تشبهها مئذنة جامع صفاقس، ومآذن جوامع تلمسان وأغادير والرباط وجامع القرويين، هذا غير بعض مآذن مساجد الشرق كمئذنة مسجد الجيوشي في مصر.
تتكون المئذنة من ثلاث طبقات كلها مربعة الشكل، والطبقة الثانية أصغر من الأولى، والثالثة أصغر من الثانية، وفوق الطبقات الثلاث قبة مفصصة. ويصل ارتفاعها إلى 31.5 متراً.
تقع المئذنة في الحائط المواجه لجدار القبلة في أقصى الصحن المكشوف، وضلع طبقتها الأولى المربعة من أسفل يزيد على 5.10 أمتار مع ارتفاع يضاهي 19 مترا، وتم بناء الأمتار الثلاثة والنصف الأولى منه بقطع حجرية مصقولة، بينما شيدت بقيتها بقطع حجرية مستطيلة الشكل كقوالب الآجر.
والطابق الثاني من المئذنة مزين بطاقات ثلاث مغلقة ومعقودة في كل وجه من أوجه المنارة، في حين زين كل وجه من أوجه الطابق الثالث بنافذة حولها طاقتان مغلقتان، ويوجد في أعلى الجدار الأعلى من كل طابق شرفات على هيئة عقود متصلة ومفرغة وسطها.
يدور بداخل المئذنة درج ضيق يرتفع كلما ارتفع المبنى متناسبا مع حجمه حيث يضيق كلما ارتفع لأعلى. ويعتقد أن هذه المنارة لم تبن دفعة واحدة، فالجزء الأول الأضخم منها بني في عهد الخليفة الأموي
هشام بن عبدالملك أيام واليه على القيروان بشر بن صفوان، ثم أكملت عملية البناء بعد مدة طويلة حيث بني الجزءان الثاني والثالث فوق تلك القاعدة الضخمة.
تجولت بالمسجد وحيدا دون دليل سياحي يرشدني إلى معالمه فاستغربت الأمر كثيرا , ذهبت بعدها فتوضأت ثم صليت تحية المسجد وتأملت كثيرا المنبر الخشبي الذي أقيم سنة 248هـ والذي اعتبرته دراسة اليونسكو من أقدم المنابر الإسلامية التي سلمت من تقلب الأزمان وهو مصنوع من خشب الساج ويشتمل على ما يربو على 300 لوحة تحمل زخارف نباتية وهندسية بديعة وتعبر عن تمازج التأثيرات البيزنطية والإيرانية وتوحدها في روح إسلامية.
غادرت المسجد إلى بيوت المدينة المجاورة للمسجد ماشيا بين أزقتها وانأ متعجب أمر عمارتها الذي لا يختلف عما تختزنه الذاكرة, وفي الطريق استوقفني سلام رجل واقف أمام بيته مرحبا بي وسألني من أي البلاد أنا فأجبته من الكويت فقال :ماترى في بيوت القيروان؟ فقلت إنها مثل بيوت الخليج لا تختلف في عمارتها ولا شكلها فابتسم قائلا: يا أخي إن من أقامها هم أجدادنا العرب الذين جاؤوا من الجزيرة العربية بصحبة القائد عقبة بن نافع فتوارثناها أبا عن جد ونحن فخورون بشكلها وألوانها.
لم أمل من التجوال والتقاط الصور حتى ناداني السائق محمد باستعجال الأمر فنحن ما زلنا بأول المدينة المعروفة بأسواقها وأسوارها وصناعتها التقليدية وسجادها القيرواني , واصطحبني معه بجولة داخل السوق والمساجد والبيوت والبوابات , انتهى الوقت ونحن لم ننته من قيروان القديمة لتنطلق السيارة مسرعة إلى حيث ما طلبته ضمن رحلتي وهو زيارة مدينة سوسة التي تقع في الوسط الشرقي للبلاد التونسية. حيث تعرف بـ"جوهرة الساحل".
والتي أسسها الفينيقيون في الألف الأولى قبل الميلاد وتغير اسمها مرات فقد أطلق عليها الفينيقيون اسم حضرموت لما لاحظوا التشابه بين سواحلها وسواحل منطقة حضرموت الموجودة في اليمن والتي ما زالت تحمل هذا الاسم إلى الآن. وسميت جوستينا وهو اسم الإمبراطور البيزنطي الذي احتلها.
وسماها المسلمون بعد ذلك سوسة ,وقد اهتم بأمرها أمراء الاغالبة فبنوا المساجد ودور العلم التي يفد إليها الطلاب من كافة بلاد
المغرب والأندلس. وانتشرت بها الرباطات وهي عبارة عن أماكن للعبادة ومراقبة السواحل خوفا من إغارة البيزنطيين على السواحل الإسلامية. وكانت الرباطات تعج بالعلماء والعباد من الرجال الذين يداومون على قراءة القرآن والحديث النبوي ويكثرون من التنفل ويضيفون إلى ذلك مراقبة الشواطئ ليلا نهارا.
وصلت إلى سوسة بعد أن بلغ مني تعب السفر أمره والجوع مهلكه فطلبت من السائق أن نأكل" الكوسكسيه" فقال أمرها سهل في السوق القديم حيث اعرف مطعما يقصده المواطنون والسياح لطيب أكله فذهبنا إليه على عجل فجلسنا في المطعم التي سبقت رائحة طبخه منظره فجلسنا على كراسيه الخشبية ننتظر وننظر بصمت إلى بساطة المطعم العتيق وأكلنا ما لذ وطاب وشبعنا بحمد لله, لأنطلق بمزاج تعكر صفوه حين انطفأت الكاميرا دون سابق إنذار أو تنبيه للبطارية الفارغة, تجولت في الحواري والازقه أرقب أسوار سوسة القديمة واتامل من خلالها منظر السائق محمد الذي جلس بالقرب على الشاطئ متأملا بسيجارته ..فدنوت منه وسألته : كم من الوقت بقى ؟؟ قال : قليل فلنبكر العودة قبل المغيب ,فأجبته : أنت مثلي تحب البكور بكل شيء قال : نعم إلا أنني سبقتك بأمر زواجي وعمري بسن العشرين وأنت بالأربعين من عمرك ما زلت عزبا ؟؟ تنهدت وقلت : حسبي الله على زليخة , حسبي الله على زليخة ؟؟ نظر إلي السائق ولم يعلق.



الزخرفة الإسلامية فهي عبارة عن وحدات هندسية أو قل إنها وحدات رياضية يراد بها التفكير الرياضي للوصول لحقيقة لا تتعلق بمكان معين ولا بزمان معين، ...وقد أخذ الفنان المسلم من الطبيعة من شجيراتها وأوراقها وأزهارها وحيواناتها بعد تحويرها لتعطي الحركة الداخلية في تداخل الأشكال الهندسية فتدرك العين تلك الحركة من خلال الخطوط المتداخلة وتلك الموسيقى الصادرة عن الأشياء تعبر عنها الحركة الزمانية التي تمثل الديمومة والاستمرارية في حركاتها اللانهائية...وقد تميزت تلك الوحدات الزخرفية بنمط من التكرار الهندسي المتكامل " فالخطوط الهندسية والنظرة الرياضية لعالم الأشياء هي تجريد ذهني للجزئي ليصبح كلياً، وقد أمكن لهذه الوحدات الهندسية المتناهية تكوين أشكال لا نهائية , وبهذا يلتقي فن الزخرفة أو ما سمي بالغرب بالأرابسك (Arabesgec) مع الفن التجريدي في مجال الانطلاق للتعبير عن المطلق ".(1)
والتكرار الزخرفي كما يراه أهل التصوف الإسلامي ما هو "إلاّ ذكر لوصف من أوصاف الذات الإلهية ، ..فهو تذكير للحقيقة وتأكيد عليها ، وأن المزخرف قد استهل هذا التأكيد من الخطابين القرآني والصوفي ، لما وجد فيها من أهمية ، فالقرآن الكريم حافل بالتكرار ، والذكر الصوفي يحمل الخاصية ذاتها ، وكل منهما صدىً للحقيقة الخالدة ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً" (الأحزاب:41) ..فالتكرار الزخرفي ,هو أحد الأسس الكفيلة بإظهار جمالية النص الزخرفي مثلما يظهر الذكر جماليات المعارف التي تصل بالمريد إلى التماهي بالجمال المطلق... فالنص الزخرفي إذا ما نظرنا إليه من حيث الشكل فانه ينطوي على وحدة في كثرة وكثرة في وحدة ذلك لان النص الزخرفي بوحدته يتضمن كثرة مفردات متكررة ومتناظرة ومتقابلة ،كما أن الكثرة جميعها ترجع إلى حقيقة الوحدة لأن الأساس في كثرتها هو الوحدة الزخرفية". (2) "التي تشكلت كلوحة رمزية تجريدية وخطاب من ائتلاف عقلي روحي ليكون بالنتيجة نصا تطالعه البصائر لا الأنظار" (3)

مصادر ومراجع البحث :

(1) أثر العقيدة في منهج الفن الإسلامي ,د. مصطفى عبده , موقع البلاغ (تم الاطلاع عليه فبراير 2008)
(2) الجمال القرآني من منظور صوفي وانعكاسه في الزخرفة الإسلامية, د.ضاري مظهر صالح العامري ,جامعة بابل, العراق
(3) التكرار الزخرفي الإسلامي وصدق الانتماءأ.م خالدة عبد الكريم حاتم , موقع تراث الصوفية (تم الاطلاع عليه اكتوبر 2008)



الجمال في النظرية الإسلامية قائم على مبدأ الحقيقة الصادقة التي تربط الإنسان المسلم بخالقه العظيم وهذا ما يفسر ارتباط جمالية كثير من الفنون الإسلامية بالمبدأ الاعتقادي الذي منح الفن منظوراً توحيدياً أصيلاً كان في نهاية الأمر بمثابة " اللقاء الكامل بين "الجمال" و "الحق". لأن الجمال حقيقة في هذا الكون ، والحق هو ذرة الجمال". (1)
فعبارة التوحيد " لا إله إلا الله" التي تحت رايتها فتحت أمصار شعوب الأرض " إنما تعني وجود حقيقتين فقط لا ثالثة لهما، حقيقة منـزهة عن عالم الخالق، وحقيقة طبيعية هي عالم المخلوق. وما دام لا شيء مما يدرك -وعيًا أو حسًا - يرقى إلى مستوى تلك الذات الإلهية فقد أقصى الإسلام تمامًا أي تعبير فني تشخيصي, نأيًا عن الوقوع فيما يمكن أن يوحي بمنافسة الله تعالى في الخلق، ..فكان التوحيد هو الإطار الذي منع الإنجازات الفنية من اختراق أحكام الإسلام ".(2) " التي وضعت الضوابط والمعايير التي ألزمت بها فنانيها كتحريم التصوير القائم على منهج المحاكاة وتخليد الأشخاص ، فدفعهم إلى التخلي عن بعض صيغ التعبير، ولكنه بهذا فتح أمامهم مجالات أخرى من الفن " (3) المميز بنماذجه وأشكاله المفارقة لأشكال ونماذج السابقين عليه من الديانات والحضارات. فاتجهوا إلى " الخط والزخرفة" التي غطت الحياة الفنية الإسلامية "بنظام معقد من الأشكال الهندسية والعناصر النباتية المكيفة لأنماط الطرز التي أبدعتها العبقرية الإسلامية بعد أن استنتجت " أن النمط والكلمة،أو الشكل والمعنى ...رمز حقيقي لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيا فيه". (4)
فكان الخط العربي هو " أول مظهر من مظاهر الفن والجمال الذي عنى به العرب بعد إسلامهم... وقد سما إلى مرتبة عالية لتعامله مع حروف القرآن منذ نزوله، فتعاملوا معه بقدسية حيث زينوا به المصاحف وأماكن العبادة باللوحات الخطية..، وقد حرك الفنان المسلم الخطوط الجافة وأضاف إليها الزخارف حتى غدت لوحات فنية. وقد استخدمت الكتابة في قوالب زخرفية محل الصورة عكست نوعاً من التعبير له خصائصه المعبرة".(5)

مصادر ومراجع المقالة :

(1) منهج الفن الاسلامي , محمد قطب
(2) إسلامية الفنون من خلال إسهامات مجلة المسلم المعاصر, محمد مراح ,موقع اسلام اونلاين ( تم الاطلاع 2008)
(3) كلمات في الفن الإسلامي , موقع هدى الإسلام (تم الاطلاع عليه اكتوبر 2008)
(4) كلمات في الفن الإسلامي , موقع هدى الإسلام (تم الاطلاع عليه اكتوبر 2008)
(5) أثر العقيدة في منهج الفن الإسلامي ,د. مصطفى عبده , موقع البلاغ (تم الاطلاع عليه فبراير 2008)



جسد المسجد قمة الفن المعماري الذي ارتبط بشكل حميم برؤية هذا الدين لمعنى الجمال والزينة باعتباره "نقلا بصريا لرؤية العقيدة الإسلامية الكونية". كما قال باحث الفنون والعمارة الإسلامية اوليغ غرابار " فالجمال عنصر أصيل في الكون ومظاهره وهو مركوز في النفس التي تهتز له" (1) تسبيحا وتعظيما لله عزوجل, فالحق تبارك وتعالى قد عدد في كتابه الكريم مواطن الجمال في آيات الكون تبصرة للإنسان وهدايته,فجاء في قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ( (فاطر:27-28). وقوله: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ( (الزمر:21).وقوله: )إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ . وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ( (الصافات:6-7). وقوله: )وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ( (النحل:5-8).
" فهذه الصور الحسية الجميلة التي يوجه إليها القرآن حواسّنا وعقولنا ويسلك آثارها في مجرى مشاعرنا، هي تعهد للإيمان بالرعاية والنمو، وإيقاظ للحس الجمالي فينا، فلا ترى أبلغ من الحقيقة تعبيرًا ولا أصدق تصويرًا , بل إن التعبير الجمالي عن الحقيقة يمتد إلى عوالم الغيب، فالجنة التي أعدت للمتقين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يصور القرآن الكريم ما فيها بألفاظ تتطابق مع حقيقة ما تشتهيه النفس من أسباب النعيم والراحة والإرضاء الجمالي لمختلف الحواس والمشاعر، قال تعالى: )الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ . ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ . يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ( (الزخرف:69-73). وقال جل جلاله: )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ . كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ . يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ( (الدخان:51-55)."(2)

مصادر ومراجع المقالة :
(1) إسلامية الفنون من خلال إسهامات مجلة المسلم المعاصر, محمد مراح ,موقع اسلام اونلاين ( تم الاطلاع 2008)
(2) إسلامية الفنون من خلال إسهامات مجلة المسلم المعاصر, محمد مراح ,موقع اسلام اونلاين ( تم الاطلاع 2008)



انتهينا وقد غابت شمس النهار فقال سعد: يبدو إن الوقت قد حان للرجوع إلى البيت لنصلي ونأكل وجبة العشاء فوافقته ,ذهبنا مرة أخرى إلى بيت خالته "أم حماده" صلينا وتعشينا من لحم الأضحية المباركة وقد جاء الجيران إلى مجلس البيت يلقون التحية ويشربون الشاي سوية ما أجمل أهل النوبة وصفاءها قلوبهم الطيبة , التفت إلي سعد قائلا :" يا أخ علي برنامجي الأخير بعد العشاء هو زيارة متحف النوبة القريب من فندقك " .
ذهبنا إلى المتحف وقد فتح أبوابه بالليل استقبال لزوار العيد , متحف أنشئ عام 1997 ،ويعد من أهم المتاحف المصرية لأنه المتحف المفتوح و الفريد من نوعه الذي خلد في جنباته وأركانه كل تاريخ وفنون النوبة فقد حوى على مايزيد عن 5000 قطعة أثرية.
تجولنا بين أركانه واسمتعمت بتاريخ منطقة قامت عليها حضارات و ممالك منذ 10 آلاف سنة أمتد نفوذها علي وادي النيل بمصر حتي البحر الأبيض المتوسط ,سماها قدماء المصريون النوبة "تا سيتي" أي "ارض الأقواس" نسبة لمهارتهم أهلها في الرماية .
وبعد المتحف شعرت بالإرهاق الشديد فاقلني سعد إلى الفندق على موعد معه في صباح يوم غد لموعد السفر إلى الكويت ,بت الليل حامدا وشاكر الله فضله ونعمه ,وفي الصباح الباكر قمت وتجولت بالفندق الكبير الذي اخبرني موظف الاستقبال إنه كان أيضا مشتا للملك لفاروق لكن هذا الفندق هو أجمل بكثير من صاحبه بالأقصر أخذني الموظف مشكورا إلى جناح الملك وغرفة نومه ومكتبته الكبيرة... لا يستطيع القلم أن يوصف جمال المكان وروعته وكيف يطل على النيل والصخور و قوارب تبحر بهدوء بأشرعتها البيضاء , لله درك يا أسوان ما أروعك , جاء سعد في موعده واقلني إلى المطار شكرت له صحبته الجميلة مقدما اعتذاري له بعد أن أخذت من وقته ومن يوم فرحه بالعيد مع عائلته.




خرجنا من البيت المبارك نشكر الحاجة "أم حمادة" على نعم ضيافتها الأصيلة
لنتجول بالقرية في اليوم المشمس الجميل وسعد النوبي يرد تحية العيد على كل من يقابله حتى وقفنا أمام بيت ذو قباب طينية استأذنا أهله فدخلنا لنرى جمال معماره , فتذكرت حينها قصة المعماري الكبير "حسن فتحي" وكيف تأثر كما قرأت يوما بنمط بيوت النوبة المبنية بالطين والمسقفة بالقبب والأقبية فهو قد أحيا تراثا معماريا جميلا متوافقة مع البيئة يحقق التهيئة المناخية الرخيصة للمنزل تستمد تهويتها وإضاءتها من فناء المنزل ، فضلاً عن ذلك فإن هذا الفناء يحقق خصوصية البيت وحرمته التي تتوافق مع القيم الدينية والأخلاقية لساكنيه.
نظر إليّ سعد قائلا : " يا أخ علي هل حققت هدفك الذي من اجله أتيت إلى بلادنا" قلت : "له نعم وشكرا لك لكن ما هو التالي في برنامجنا ", قال :" سنأخذك برحلة نهرية نلف أسوان " ,انطلقنا إلى ضفة النهر نريد أن نستأجر قارباً من صاحب سعد إلا انه رفض أن يأخذ أجره إكراما لي , لكنه رضي بعد ذلك مقسومه من الرزق عيدية لأولاده فقبل مشكورا, فاخذنا القارب الأبيض يلف بنا وأنا سعيد بالأرض والماء والوجوه الطيبة التي رافقتني وسعد يشير إلى الأماكن السياحية التي تصادفنا , فأشار بيده إلى بيت "محمد منير" الفنان النوبي الذي يطل على النهر حتى كاد أن يسقط فيه ؟؟ ثم أشار إلى ضريح على ربوة عالية لزعيم الطائفة الإسماعيلية الراحل "محمد شاه الحسينى" أغاخان الثالث حيث بنى مقبرة فخمه من الحجر الجيرى والرخام مستوحاة من المقابر الفاطمية ليدفن بها عام 1959 بناء على وصيته .
وقد اخبرني سعد إن الضريح قد تم اغلاقة بعد أن كان مزارا للسواح فسألته عن السبب ؟؟ فقال: خلاف بين المحافظ وورثة الأغا خان, حين اشترطت المحافظة رسوما لزيارته؟ .
وبعد مدة قطعناها في الرحلة توقفنا على ضفة نهرية ونزلنا وإذا بجمال يركبها سواح سبقونا إليها قلت لسعد ما الأمر قال :سوف نركبها لتأخذك إلى دير " الأنبا سمعان " يعود تاريخه إلى القرن السادس الميلادي وهو من أكمل الأديرة القبطية العريقة ويضم بين جنباته كنيسة لازالت رسومها تمثل صور للسيد المسيح والقديسين ,ركبنا الجمال وسارت بنا إلى ذلك الدير البعيد .
انتهينا وانتهت رحلتنا البحرية قلت له :"ما ذا لديك من برنامج زيارات يا سعد"؟ قال : "هلم إلى معبد "الفيلة" ", قادني بالسيارة إلى مرسى لمراكب نيلية ركبنا إحداها إلى الجزيرة التي اكتظت بسواح العالم حاول سعد أن يشرح لي المكان لكنه معلوماته كانت قليلة جدا فاستغربت أمره, لكنه أوقف احد أصدقائه المرشدين السياحيين الذي أتى مشكورا واخبرني قصة المكان فهو عبارة عن معابد تم إنقاذها في أعقاب بناء
السد العالي ونقلت إلى جزيرة "اجيلكا" عام 1972-1980 بمساعدة اليونسكو حيث يضم خمسة عشر جزءاً معمارياً أكبرها معبد ايزيس الذي شيد في عهد بطليموس الثاني ومعبد الماميزى اى بيت الولادة وأيضا جوسق تراجان ومعبد حتحور وبوابة ومقياس النيل ومعبد كلوديس ومعبد ماندوليس الذي إلى كنيسة في العصر المسيحي.
قلت: "للمرشد هل هذا المبنى الكبير منقول من مكان آخر إلى هنا"؟ , قال:" اجل " قلت له:" مستحيل" قال :"لا بل حقيقة فأخذني إلى صخور المعبد وقال انظر إلى المسامير التي غرست بها لتنقل مفككة "؟ قلت : " حقا لأنه عمل بغاية الإتقان قمت بعد ذلك بجولة في المكان وأخذت الصور الكثيرة.



في الطريق إلى المطار هزني صوت التكبير والتهليل الذي انطلق من مساجد الأقصر في فجر يوم عيد الأضحى المبارك "الله اكبر الله اكبر , لا اله إلا الله,الله اكبر الله اكبر ولله الحمد " .... وصلت المطار ولم انتظر كثسرا حتى اقلعت الطائرة الى مدينة اسوان ,وصلتها بحمدالله تعالى , وإذا بالأسمر "سعد النوبي" أمامي ينتظرني خارج صالة "القادمون" , حياني وحييته وباركت له بالعيد الكبير , أخذني بسيارته "البيجو" الفرنسية وقد تهالكت بفعل الأيام والاستعمال لكنها مازالت قوية على السير , كم هو شعور جميل أن تركب تلك السيارة متجولا في "أسوان" المشرقة لم أتوقع صفاء جوها وعليل هوائها, الخضرة من بين التلال الصفراء والصخور الغرانيتية الداكنة تتلألأ متناثرة هنا وهناك على جانبي ضفة نهر النيل ووسطه الصافي بلونه الأزرق الفيروزي والذي ليس بكدر ألوانه في "القاهرة" ,..التفت إليّ سعد قائلا: " تصدق يا أخ علي على الرغم من جمال أسوان إلا أننا نفتقد السواح الخليجيين" ، قلت له: "معقول ؟" قال : " نعم ولا نعرف إصرارهم على الذهاب إلى القاهرة بالرغم من زحمتها وارتفاع أسعار فنادقها" .... قلت: "والله إنها لخسارة ".
وصلنا إلى الفندق المطل على النيل مباشرة , وضعت حقيبتي في الغرفة ونزلت مسرعا إلى "سعد" متحسرا على قرار المبيت ليلة واحدة في أسوان الجميلة وقلت له: "أخي الكريم أنا جاهز لمشوار برنامج رحلتنا ما هي بدايتك ",
أجاب: " لقد علمت من ابن عمي في الكويت إنك تنشد القرى النوبية وأنا بصباحية العيد محضر لك مفاجأة سوف تسرك". قلت :"على بركة الله", انطلق سعد بسيارته يلف بنا يمينا وشمالا في شوارع وأزقة القرى الجميلة بألوان بيوتها الفاقعة فليس هناك بيت يماثل بلونه جاره ؟؟ سالت عن سبب ذلك ؟ فأجابني سعد ضاحكا :" يبدو إننا مللنا من لون بشرتنا الأسود "؟؟ توقفت السيارة عند ضفة النهر ونزلنا مشينا باتجاه قارب صغير يسمى "بالمعدايه " وكان بجواره سواح أجانب تبادلنا التحية معهم وعرفني كبيرهم الذي يبلغ من العمر عتيا بأنه مهندس من سويسرا جاء بعائلته للمرة الثانية إلى أسوان ؟؟ قال : "شدتني أسوان أكثر من أي مكان في العالم ".
ركبنا "المعداية" والتي من عادة أهل النوبة أن يخدم فيها الصغير فيها الكبير
مهما كانت درجة المعرفة بينهما , وأخذ "سعد" يجدف بنا إلى ضفة النهر المقابلة وصلنا إلى هناك ومشينا مسافة باتجاه بيت من طابق واحد بسيط في شكله ومعماره , بابه الحديدي مفتوح تطل منه رؤوس أطفال صغار تزينوا بلباس العيد دعاني سعد إلى الدخول إلى غرفة المجلس على يمين الباب دخلت "بسم الله وعلى بركته" جلسنا على الكنبة العتيقة وقدمت إلينا "أم حماده" تحيينا بالسلام وتبارك لنا بالعيد ودعتنا لمشاهدة ذبح خروف العيد في "حوش" البيت التي طلت عليه الدور الصغيرة ,والقصاب يسل سكينه لسلخ خروف العيد بعد أن قام بذبحه, شعرت حينها وكأني في بيت كويتي قديم فأدركت سر راحتي الكبيرة حين ولجت هذا البيت ,قالت "أم حماده": اجلسوا في الغرفة لحين إعداد لكم فطار الصباح ,دعاني "سعد" مرة أخرى إلى الغرفة وجلسنا نتبادل الحديث عن أهل النوبة وصفاتهم التي اتسمت بالطيبة والأمانة والإخلاص والوفاء. وقلت له: "بيوتكم قريبة من بيوتنا في الكويت فتصميمها واحد" فاستغرب سعد من كلامي وقال :" بيوتنا الحالية هي أكثر حداثة من بيوت النوبة القديمة ذات القباب لابد أن اريك إياها بعد أن نفطر فطورنا" وما أن انتهى من جملته حتى أطلت علينا "ام حماده" ثانية وهي تحمل مائدتها المباركة التي حوت الكبدة المحموسة بالبهارات فأكلناها بالفطير المصري بنخالته الطيبة .



جاء الغد .. و" الحاج رفعت " الذي امتهن مهنته منذ 27 عاماً عند موعده الساعة السابعة والنصف ركبنا سيارة الصالون وإذا "بعبد المالك" سائقنا قد افتتح يومه بشريط تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد , ما أجمل صوته يحن إليه القلب ويرتوي له سماعاً رحمه الله لم يأت من يعوض صوته الجميل .
سارت بنا السيارة في الصباح الباكر من يوم عرفة على مهل وفتحت النوافذ لجو الأقصر البارد المنعش يا الله ما أجمل صعيد مصر وأنا انظر إلى المزارع التي عن يميني وشمالي تزرع قصب السكر سألت الحاج لم التركيز عليه قال: "ربحه في التجارة أكبر وأيسر دون باقي المحاصيل ", تجاوزنا حاجز الشرطة ثم قطعنا مسافة من الكيلومترات حتى وصلنا إلى البر الغربي والذي كان عبارة عن صحراء شاسعة على مد البصر ؟؟ نزلت مع "الحاج رفعت" فوقفت أتأمل المكان غير مصدق جماله , لنمشي بعد ذلك إلى منطقة صخرية حوت مدافن ملوك وملكات الدولة الفرعونية الحديثة حيث نحتت في باطن الصخر لتكون بمأمن من عبث اللصوص وسراق التاريخ.. فكان المقبرة تتكون من عدة غرف وسراديب توصل إلى حجرة الدفن وأهم هذه المقابر وادي الملوك مقبرة توت عنخ أمون ورمسيس الثالث و سيتى الأول و رمسيس السادس و امنحتب الثانى و حورمحب و تحتمس الثالث أما أهم مقابر وادي الملكات فكانت مقبرة الملكة نفرتارى زوجة رمسيس الثانى .
ثم انتقلنا إلى معبد الدير البحري الذي شيدته الملكة " حتشبسوت " لتؤدى فيه الطقوس التي تفيدها في العالم الأخر أما اسم الدير البحري فهو اسم عربي حديث أطلق على هذه المنطقة في القرن السابع الميلادي بعد أن استخدم الأقباط المسيحيين هذا المعبد ديراً لهم . ويتكون المعبد من ثلاثة مدرجات متصاعدة يقسمها طريق صاعد , قيل أن حبيب حتشبسوت المهندس "
سنموت " هو الذي بنى لها معبدها الشهير في الدير البحري والذي منحته 80 لقبا وكان مسؤولاً عن رعاية ابنتها الوحيدة وقد بلغ من حبه لمليكته أن حفر نفقا بين مقبرتها ومقبرته. إلا نهاية الحبيبين كانت غامضة لا تزال لغزا حتى الآن.
انتهى برنامج زيارتي لأقصر التاريخ والحضارة الفرعونية ,لأعود إلى الفندق استعداداً ليوم الغد , حيث ستقلني طائرة الصباح إلى مدينة أسوان التي تعرف "بسونو" في عصور المصريين القدماء ومعناها السوق حيث كانت مركزا تجاريا للقوافل القادمة من وإلي النوبة ثم سميت ب "سوان" .



أتينا معبد الأقصر الذي شيد للإله أمون رع حيث كان يحتفل بعيد زفافه إلى زوجته - موت- مرة كل عام فينتقل موكب الإله من معبد الكرنك بطريق النيل إلى معبد الأقصر, ويرجع بناء المعبد إلى الفرعونين" أمنحتب الثالث" "ورمسيس الثاني" الذي شيد بمدخله تمثالان ضخمان يمثلانه جالساً . ويتقدم المعبد مسلتان إحداهما مازالت قائمة والأخرى تزين ميدان الكونكورد فى باريس, يلي هذا الصرح فناء رمسيس الثاني المحوط من ثلاث جوانب بصفين من الأعمدة على هيئة حزمه البردي المدعم . وفى الجزء الشمالي الشرقي يوجد مسجد "أبو الحجاج الاقصري "بني على ضريح رجل صالح قدم من العراق في زمن المماليك , وكان لعلو المسجد لساحة معبد الأقصر دلالة على حجم غرق آثار المعبد برمال السنين وطمي النيل .
ثم تقدمنا إلى الداخل لنصل إلى غرفة القارب المقدس وقد استطاع الإسكندر الأكبر بعد احتلاله لمصر أن يشيد مقصورة صغيرة له تحمل أسمه داخل مقصورة "امنحتب الثالث" فكان بذلك العمل أراد أن يتقرب من الشعب المصري بوضع طقوس عبادتهم على مقصورته حيث نجده على جدران المقصورة مناظر تمثله خاشعاً في حضرة الإله. انتهينا من برنامج اليوم الأول وتواعدت مع الحاج رفعت على يوم الغد صباحاً لزيارة البر الغربي وطلبت سيارة ليموزين لأن الباص الصغير متعب بسيره فوعدني خيرا , تجولت بعد أن ودعته راجلا في المدينة ارقب حركة الناس استعدادا لعيد الأضحى المبارك تمشيت على كورنيش الأقصر الجميل وقد دنت منه مراكب وبواخر السواح الكبيرة التي تقلك عبر النيل باتجاه أسوان ومعبد "أبوسمبل" تقضي أياما سعيدة في وسط النيل الكبير. غربت الشمس وشعرت بالجوع قلت لنفسي "العودة إلى الفندق ابرك أتعشى ثم أنام ليوم الغد" .وفي الطريق لمحت مكتبة كبيرة دخلت إليها وسالت البائعة عن كتب باللغة العربية عن مدينة الأقصر وتاريخها فأجابتني :" للأسف لا يوجد كتب باللغة العربية عن الاقصر سالت عن السبب قالت : لندرة سواح العرب فهم لا يأتون إلى هنا, انظر إلى الكتب اغلبها بالانجليزي والايطالي والألماني وكل لغات العالم ,خرجت من المكتبة وأنا لم استوعب حقيقة غياب السواح العرب عن هذا المكان الجميل ؟؟



أخذني الحاج رفعت بعد ذلك إلى بقايا الصرح الثالث حيث تقف أمامه مسلة "تحتمس الأول" ومنه إلى بقايا الصرح الرابع وتتقدمه مسلة "حتشبسوت" , "وما أدراك يا اخ علي ما حتشبسوت"؟ هكذا بدأ الحاج رفعت قصته عنها فقال :" إنها أحد أشهر الملكات في التاريخ ، وخامس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، وحكمت من 1503 ق.م. حتى 1482 ق.م. وهى الابنة الكبرى لفرعون مصر الملك "تحوتمس الأول" وأمها الملكة " أحمس" وكان أبوها الملك قد أنجب ابنا غير شرعى هو" تحتمس الثاني" وقد قبلت الزواج منه على عادة الأسر الملكية ليشاركا معا في الحكم بعد موته، وذلك حلا لمشكلة وجود وريث شرعي له, لكنها لم تطق أن يشاركها احد في أحلام السلطة , فروى بعض المؤرخين إنها قتلت زوجها وأخاها الملك "تحتمس الثاني" للاستيلاء على الحكم ، لتنصب نفسها وصية على عرش الملك الصغير "تحتمس الثالث" ابن "تحتمس الثاني ". وبعد عامين، نصبت نفسها ملكة للعرش بعد أن نفت" تحتمس الثالث"، الذي لم يكن عمره قد تجاوز السادسة إلى أرض بعيدة عن حكمها الذي اشتهر بالسلام والازدهار ورحلات البحار , حكمت مصر لمدة عشرين عاما,لبست لبس الرجال لإقناع شعبها بأنها تستطيع الحكم , لكن الأمر انتهى على يد المنتقم " تحتمس الثالث" الذي استولى على الحكم من يد عمته "حتشبسوت" التي اختفت وراء الشمس دون ذكر لتاريخ وفاتها بعدها قرر "تحتمس الثالث" إزالة كل اثر لها من رسومات المعابد والقصور إلا انه وقف عاجزا أمام مسلتها الطويلة في معبد الكرنك فأمر البنائيين إلى تغطيتها بالأحجار حتى لا ترى في المعبد الكبير ونسي العالم أمر مسلة "حتشبسوت" حتى جاء زلزال في القرون التي تلت وهز الأحجار الضخمة لتتساقط وتكشف للعالمين عن مسلة "حتشبسوت" الجميلة التي أصبحت مقصدا للسياح وذكرا لها رغم انف "تحتمس الثالث" ( - 1425 ق.م.)" الذي ذكره التاريخ بسادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، وأعظم حكام مصر على مر التاريخ. إذ اهتم بإنشاء أسطول بحري قوي استطاع أن يبسط سيطرته على الكثير من جزر البحر المتوسط مثل قبرص وأيضا بسط نفوذه على ساحل فينيقيا (سواحل لبنان وفلسطين حاليا) فبذلك هو أول من أقام أقدم إمبراطورية عرفها التاريخ امتدت من أعالي الفرات شمالا حتى الجندل الرابع جنوبا ويلقب ب(أبو الإمبراطوريات) وكذلك يُلقب "تحتمس الثالث" باسم (نابوليون الشرق) و كذلك (أول إمبراطور في التاريخ) إذ يُعد من العبقريات الفذة في تاريخ العسكرية على مر العصور. و تُدرس خططه العسكرية في العديد من الكليات والمعاهد العسكرية في جميع أنحاء العالم, وهو أول من قام بتقسيم الجيش إلى قلب وجناحين, وقد استعانت الإمبراطورية البريطانية بالعديد من خططه في معاركها، خاصة ما قام به اللورد اللنبي في معاركه ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
انتهينا من جولة معبد الكرنك الذي ظلت أنظاري إليه شاخصة عاجزة في بعض الأحيان عن استيعاب نمط المعمار والهندسة المصرية القديمة لتنقلنا السيارة إلى معبد الأقصر القريب الذي يبعد مسافة ثلاثة كيلومترات عن معبد الكرنك يتخللها علي جانبي الطريق عدد كبير من تماثيل أبي الهول الصغيرة أو ما يعرف
بطريق الكباش .



تأملت الصالة الملوكية التي تطل على شرفة واسعة حفتها حديقة رائعة ذات أشجار عالية ظليلة وقلت لنفسي ما أجمل العمران فهو الأثر الباقي لكل من غاب ذكره أو انتهى عصره ؟؟ أفكار راودتني يمينا وشمالا عن ذلك العصر الملوكي في مصر وكيف انتهى على عهد صاحب هذا القصر. لم يقطع أمر التفكير الحائر إلا صوت ينادي باسمي "الأستاذ علي" التفت وإذا بالدليل السياحي قد أتى بموعده مع السائق عرفني بنفسه "بالحاج رفعت" تبادلنا التحية والإكرام وانطلقنا بتمام الحادية عشر والنصف صباحا إلى مكان قريب من الفندق نزلنا من الباص الصغير وإذا بمنظر أعداد السواح الغفيرة قد ملئت ساحة معبد الكرنك ...كأنهم في حج للمكان ينتظمون ويتحلقون حول من يشرح لهم بالانجليزية والفرنسية والايطالية واليابانية, شباب مصريون امتهنوا مهنة الإرشاد السياحي وعرفوا لغاتهم غيرهم وشرحوا بكل فخر تاريخ بلادهم...فالأقصر تجذب الشريحة الأكبر من السياحة الثقافية الوافدة إلى مصر، وتعتبر مخزن الحضارة المصرية القديمة وفيها أكثر من «800» منطقة ومزار اثري تضم أروع ما ورثته مصر من تراث إنساني.
أخذني الحاج رفعت من يدي وأجلسني على دكة قرب تمثال على هيئة كبش وقال أنت الآن عند مدخل معبد الكرنك أي بمعنى "الحصن الكبير" وهو من علامات
الأقصر المميزة كما انه أعظم دور للعبادة في التاريخ, لأنه يضم العديد من المعابد التي لا نظير لها في العالم , حيث كان كل ملك من الملوك المتعاقبين يحاول جعل معبده الأكثر روعة. ليتميز به عن سلفه لذلك تحولت معابد الكرنك إلى دليل كامل وتشكيلة تظهر مراحل تطور الفنّ المصري القديم والهندسة المعمارية الفرعونية المميزة.
دخلت مع الحاج رفعت أولا الصرح الأول والذي يرجع إلى "الملك نختبو" ومنه إلى الفناء الكبير ,يلي ذلك بقايا الصرح الثانى ومنه إلى صالة الأعمدة الكبرى التي تحتوى على134 عموداً تتميز بارتفاعها عن باقي أعمدة الكرنك وأمام اندهاشي بتلك الأعمدة الضخمة سألني الحاج رفعت سؤالا قال :" يا أخ علي هل تعرف كيف بينت تلك الأعمدة في هذا المكان الضيق "؟؟ نظرت متأملا اسرح بفكري جوابا عن سؤاله المحير , فبالفعل كيف بنيت تلك الأعمدة ؟ فلم يوجد لديهم رافعات كتلك الموجودة الآن ولا يمكن لهذه الاجحار أن تنقل بسهولة وتبنى في تلك المساحة الضيقة ؟؟ طال انتظار الحاج رفعت في جوابي لسؤاله لكنه أدرك عجزي , فقال:" المصريون القدماء نجحوا في بناء الأعمدة بطريقة ذكية وسهلة فعندما يضعوا حجرا لكل عامود يغطوا المكان بالرمل ثم يضعوا الاجحار الأخرى ويغطوا ما ارتفع عليهم بالرمل حتى بلوغ الأعمدة ارتفاعها المنشود ثم يأتوا بعد ذلك يزيحوا الرمل عنها لتبقى الأحجار ورسوماتها شاهدة على عبقرية المعمار المصري القديم" .



وصلت إلى مطار الأقصر الجميل في تمام الساعة 2:30 فجراً ..وبعد النزول من الطائرة لسعتني برودة الجو وهو أمر لم أتوقعه فقد اخبرني احد الأصدقاء المصريين أن الأقصر هو مشتى بالنسبة للمصريين والبرودة فيها معتدلة لكن ما وجدته كان بالعكس تماماً, نزلنا من الطائرة وانتظمنا ثلاثة طوابير طويلة أغلبها من الأخوة "الصعايدة " العاملين في الكويت الذين جاءوا فرحين إلى أهاليهم في عطلة عيد الأضحى المبارك ... انتهيت من الجوازات بعد أن أدركني ضابط الجوازات مشكورا من بين الواقفين ودعاني إليه وقال بعد أن ختم جوازي مرحبا بك في بلدك الثاني , خرجت بعدها إلى ساحة المطار لأخذ تاكسي يقلني إلى الفندق المعلوم وإذا بشخص ضخم وسمين ذي سمرة داكنة يقف معترضا باب الخروج استقبلني بابتسامة كبيرة :تاكسي ... تاكسي .. فقلت له :نعم لم يصدق الرجل ما سمع حتى اخذ حقيبتي من يدي وانطلق يهرول إلى سيارته وفي الطريق اعترضه صعيدي ضخم ذو عمة كبيرة أخذ حقيبتي من يديه وقد تنازعا فيما بينهما أمام أعين الناس :" ما يصحش يا عبد الغني أن تأخذ السواح من على باب المطار وإحنا نستناهم في الساحة منذ أول الليل "...وعبدالغني يرد عليه :" الراجل جاء بمعرفتي "؟؟ لم افهم معنى مايقصد فطلبت منهما أن يتوقفا فالجموع قد التفت من حولنا تنظر بغرابة أمر صراع الجبلين... فقلت للصعيدي ذو العمة الكبيرة :"اترك الحقيبة أنا من يختار صاحب التاكسي ,والتفت إلى صاحبي الأسمر وقلت له:" أنت من يقلني إلى الفندق " , وانتهى الأمر ,أخذني عبدالغني وهو يلعن اليوم الذي "ساب" أرضه واشتغل سواق تاكسي بالمطار ، أخذني عبر شوارع الأقصر عاصمة مصر القديمة والتي تبعد عن العاصمة الحالية القاهرة 670 كيلومتر, مدينة تاريخية تقع في وسط محافظة قنا بأقصى صعيد مصرالعليا أو ما يسمى " بالصعيد الجواني" . تعددت الأسماء التي أطلقت عليها في تاريخها السحيق ، كان أشهرها مدينة المائة باب، ومدينة الشمس، ومدينة النور، ومدينة الصولجان، وأطلق عليها العرب مع بداية الفتح الإسلامي الأقصر ، جمع قصر, وذلك بعد أن بهرتهم بقصورها وضخامة مبانيها .
وصلت إلى الفندق الذي سكنه صمت المكان وهدوءه, حتى لمحت الموظف من خلف مكتبه فاستقبلني بابتسامة غلب عليها تعب الليل وسهره , أعطاني مفتاح الغرفة وتمنى لي إقامة سعيدة , ذهبت إلى غرفتي توضأت وصليت الفجر بعد أن نادى مؤذن المسجد القريب " الصلاة خير من النوم" خلدت بعدها راقداً من سهر الليل ومشوار السفر وبعد ساعات صحوت وذهبت إلى صالة الاستقبال اسأل عن برنامج الرحلات في مدينة الأقصر فطلبت مني موظفة الاستقبال بأن أذهب إلى المبنى القديم من الفندق لأن هناك مكتبا ينظم الرحلات وذهبت عبر ممر صغير ينتهي بقاعة ملوكية جميلة يتوسطها مكتب جلست خلفه أمورة صغيرة حيتني بابتسامة جميلة , قلت لها: أختي الكريمة أريد برنامجاً من الرحلات ينظم لي زيارات إلى آثار الأقصر ومعابدها الفرعونية , فاقترحت لي رحلتين ,إلا ولى إلى معبد الكرنك والأقصر والثانية إلى وادي الملوك ومقابر الملكات في البر الغربي ورحلتي الأولى تبدأ اليوم بعد ساعة منذ الآن ..وافقت على عجل وأخرجت لها قيمة الرحلتين , تركتها باسما أنتظر الدليل السياحي في القاعة الملوكية في مبنى قصر الملك فاروق.



اتصل بي ذلك المسؤول يوما وقال: لي أخ علي لدى مشروع لا يصلح لأمره إلا أنت ، قلت: خير إنشاء الله , قال: مر علي بالمكتب لأشرح لك ... قدمت إلى مكتبه الذي أعد له خصيصا بعد أن قطع دراسته بالولايات المتحدة ... وقال بصوته الهادئ: أخي الكريم هناك عرض بالتعاون مع شركة المشروعات السياحية باستغلال مساحات على الواجهة البحرية لإقامة مصليات على الواجهة البحرية ؟؟
قلت له : الأمر جميل لكن ما دوري أنا بالموضوع ؟؟, قال :أنت فنان ومهتم بالمساجد القديمة والموضوع سيكون جدير لك بمتابعته ليتم إخراجه بالشكل المشرف لمؤسسة بيت الزكاة ...!؟؟
قلت له : لا بأس ومن أين تريد أن نبدأ بالمشروع ؟ قال :غداً سوف نقوم بجولة على الواجهة البحرية للإطلاع على ساحات المصليات وبعدها نذهب سوية للالتقاء بمدير المشروع بالشركة ..
وجاء الغد الجميل في شتاء عام 1994 وانطلقنا سوية وقمنا بمعاينة مساحة المصليات ثم دلفنا إلى مقر شركة المشروعات السياحية القريب من الواجهة البحرية واجتمعنا بالمهندس عبد الله السهلان ، ودار النقاش بيننا وبينه حول تصميم المصلى فاقترحت أن يكون أمره مستمداً من ثوابت عمارة المساجد القديمة في الكويت والواجهة البحرية وهي فرصة لنا أن نقدم لرواد الواجهة البحرية صورة من عمارة الكويت القديمة ، فاستغرب المهندس السهلان وقال :كيف ذلك ؟؟ هل تريد بناء مسجد من الطين على الواجهة الحديثة ابتسمت له ومازحته: ولم لا ... قال: مستحيل مساحات المصليات صغيرة والواجهة حديثة بتصميمها فهذا يخل بالشكل العمراني ، قلت له لن نبني مسجداً من الطين ولكن نأخذ من ثوابت عمارة المساجد القديمة بما ينسجم مع الشكل المعماري للواجهة ، قال: اشرح لي ؟ قلت: له مساحة المصلى صغيرة لا تتجاوز (5 × 5) أمتار وهي المساحة التي كانت تماثل مساحة بعض المساجد القديمة .. وحتى لا يضيع صف للصلاة لمن يؤوم الجماعة سنعمل له محراباً يكفيه ، قال: فكرة حسنة هناك إمكانية بتنفيذها ، قلت: يكون شكل الأبواب والنوافذ الخشبية مصنوعة من الساج ، قال: لا بأس أيضا الأمر مقدور عليه ، قلت له: نضع منارة صغيرة مستمدة من تصميم مساجدنا القديمة ... ، قال: هذا صعب نحن نبني مصلى لا مسجد ,المنارة تعطي إيحاء المسجد ... صمت لساني ولم استطع الرد عليه فهو أخبر مني بالهندسة والعمران ، لكنني ألهمت بالإجابة فقلت له : يا أخ عبد الله من يسير بسيارته ويحين عليه وقت الصلاة لا يدرك أن هناك مصلى من ارتفاع الأشجار في الواجهة هنا صمت أيضا المهندس عبد الله وقال: فكرتك صحيحة لكن المنارة سوف تكون صغيرة بما يتلاءم مع شكل المصلى ... قلت :هذا ما أردته ..؟؟
وانتهى الاجتماع وكلفت بمتابعة أمر تصاميم المساجد مع الشركات التي ستتقدم بعروض أسعارها . وكانت فرصة لي لأخذ مهندسي تلك الشركات بجولة معي في السيارة حول المساجد القديمة لاستلهام ثوابت عمارتها الجميلة حتى وفقنا إلى التصميم الحالي , فرحت بانجاز المشروع وفرح أهل الصلاة بتلك المصليات , والحمدلله رب العالمين .



وعند الحديث عن الحركات الإصلاحية ودورها النهضوي لابد وأن نتطرق إلى دور الحركة السنوسية في مواجهة ترديات الأمة ومجابهة المستعمر حين استشعر مؤسسها محمد بن علي السنوسي (1787_1859م) بعد احتلال الجزائر من قبل الاستعمار الفرنسي " عظم المخاطر وشدة التحديات فاستلهم فكر المرابطة والتربص والإعداد والاستعداد للجهاد ليس بالفورة المتعجلة المتسمة بالبداوة ..وإنما بالصبر والمصابرة والجهاد والمقاومة ..ومن هنا كانت فكرة الزاوية ..فكانت نموذجاً للمجتمع الجديد الذي استهدفه والإنسان الجديد الذي أراده , ... فبلغت زوايا الشيخ التي أحصاها المؤرخون مائة وثمان وثماني زاوية خمس وعشرون منها في الجزيرة العربية وستون في أفريقيا, " ونحن إذا شئنا أن نستخدم لغة عصرية في وصف الزاوية ووظائفها قلنا إنها مؤسسة الحكومة ومزرعة الدولة ونموذج المجتمع الجديد الموعود ففيها المسجد والمنزل وبيوت الضيافة لعابري السيبل والفقراء الذين لا مأوى لهم ومخزن للمؤن واصطبل ومتجر وفرن وسوق تحيط المباني العامة المساكن الخاصة بالقبائل التي تقوم الزاوية في منطقتهم ..وللزاوية أرض زراعية خاصة بها وآبار جوفية وصهاريج لحفظ المياه وأرض الزاوية وحدائقها تزرع جماعيا إذ يأتي كل من يقطن في منطقتها يوم الخميس من كل أسبوع إلى المزرعة يعملون عملا بلا أجر أما محصول أرض الزاوية فانه ينفق على احتياجات فقرائها وضيوفها غذاء وكساء وتعليما وزواجا ... وكانت لمواقع الزوايا فلسفة تحكمها فكثير منها قد أقيم على مواقع منشات يونانية ورومانية قديمة وحكمت الاختيار لمواقعها أهداف اقتصادية وسياسية مثل طرق القوافل الهامة ونقاط الدفاع الحصينة والغايات المرجوة من نشر الإسلام في قلب القارة الإفريقية والبعد عن مواطن الصدام بقوات الاستعمار قبل التمكن والاستعداد ولقد حولت هذه الزوايا التي تناثرت في الصحراء وعلى مشارفها الأرض القاحلة إلى جنات مثمرة وكان السنوسي قدوة لطائفته في الانخراط بالعمل اليدوي زراعة وصناعة حرفية ....وكان يعلم تلاميذه أن العاكفين على الأوراد والأوراق والمسابح لن يتقدموا أهل الزراعة والحرف عند الله أبدا فكان يقول دوما : الأرض تبتهج من حولها بأنواع الأشجار ويكثر بها السكان لكثرة الثمار وتنتشر فيها العمارة وتتسع بها الادارة ."(1)
كان العمل الجماعي الذي أراده الشيخ السنوسي موزعاً بين الزراعة والصناعة والفروسية.. والمران على فنون الحرب والقتال فكانت الزوايا "تنهض بهذه المهمة في القرن التاسع عشر قرن المد الاستعماري الأوروبي لابتلاع القارة الإفريقية والسيطرة على اقطارها واستغلال أهلها ..فقد أصبحت سدا منيعا يفسد على الاستعمار مخططه الإفريقي الرهيب ..ومن هنا كانت السنوسية واحدة من حركات اليقظة العربية التي واجهت الاستعمار الأوروبي والتحديات التي فرضها الاعداء" (2)
ما أحوجنا اليوم إلى فقه هجر الدعوة الوهابية وزوايا الحركة السنوسية لتدرك الأمة قيمتها الحضارية ودورها الريادي أمام واقع التخلف والاستسلام الذي تعيشه.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

المصادر:

(1) عمارة , د.محمد ,العرب والتحدي ,دار قتيبة ,دمشق ,طبعة ثانية 1987,ص ص 153_156
(2) عمارة , د.محمد ,العرب والتحدي ,دار قتيبة ,دمشق ,طبعة ثانية 1987,ص ص 157



هيأ الملك عبدالعزيز آل سعود " المناخ الزراعي الملائم والاستكثار من حفر آبار المياه وتوفير الآلات الضرورية للحرث والزراعة كما خصص لكل هجرة ما يلائمها من قوت ومساعدة حالة التعرض للآفات والكوارث الطبيعية ، كما أبقى لزعماء القبائل وذوي النفوذ مهامهم القيادية وما كانوا عليه من علو في المنزلة وبسطة في الجاه والنفوذ ...فاختط - رحمه الله - أول هجرة استيطان في قلب التجمع القبلي ما بين شمر الجبل وبدو القصيم وبدو الأحساء وعلى الطريق المؤدية إلى الكويت فأسس هجرة الأرطاوية عام 1330 هـ ..ثم توالى تأسيس الهجر حتى بلغت مائة وثنتين وخمسين هجرة لمختلف بطون القبائل واستطاع الملك عبد العزيز من خلالها أن يغرس في نفوسهم العقيدة الإسلامية وأن يقضي على النزعة القبلية عندهم وأن يتصلوا ببعضهم بروابط الأخوة الإسلامية بعد أن بعث لهم العلماء والمرشدين يعلمونهم القراءة والكتابة ابتداء من حروف الهجاء ، حتى إن الإنسان إذا مر برجال تلك الهجر يسمع لهم دويا كدوي النحل " (1)
يقول أمين الريحاني مبينا نماذج من نماذج الدعوة التي نهجها الملك عبد العزيز : " باشر ابن سعود إصلاحه الكبير بالوسائل الدينية فكان يرسل المطاوعة إلى البادية ليعلموا أهلها دين التوحيد والفرائض ويزينوا لهم هجر ما هم فيه إلى ما دعاهم إليه من إيمان يستشعرونه ، وبيت يأوون إليه وأرض يحرثونها " . ( 2)
" فارتبطت تنمية البادية بتطور المدن ونمو الحضر في المملكة العربية السعودية، وكذلك تطور النظام السياسي والإداري للدولة ثم حركة التصنيع في المملكة وغير ذلك من الظروف التي أدت جميعها إلى جذب البدو من جوف البادية، ودعاهم إلى المعيشة في المدن، فاشتغل بعضهم في قطاع الصناعة أو البترول أو الخدمات ، وتعلم الأبناء في معاهد التعليم الحكومية المجانية المنتشرة في كل أنحاء المملكة، فارتبطت حياتهم بحياة آبائهم بالمدينة، والنتيجـة أننا هنا إزاء تغيرات جذرية أصابت حياة قطاع لا يستهان به من البدو تركوا حياة الارتحال، وسكنوا المدن ، واتخذوا صنائع أهل الحضر، وارتفع مستواهم الصحي والتعليمي والثقافي والمعيشي، .. وقد أشارت أحدث التقارير والدراسات الإحصائية أن نسبة البدو الرحل وشبه الرحل لا تتجاوز اليوم 10% من سكان المملكة، بعد أن كان إحصاء عام 1965 يقدر عددهم بنحو 50% من سكان المملكة العربية السعودية أي قرابة 3.5– 4 مليون نسمة". (3)
فتعزز مؤشر الاتجاه العام الحضري في المملكة الذي ابتداه الملك عبد العزيز وأولاده من بعده الذين تولوا قيادة الحكم فاهتموا بتطوير الزراعة والتنقيب عن المياه فقد تعدد مشروعات التنمية الزراعية منذ عهود الاكتشافات النفطية وتحولت الصحراء المجدبة بفضل الله إلى حقول خضراء تزرع ما أنعم الله على عباده من خيرات الأرض فتنتج المملكة وبإرادة مخلصة قمحا وفيرا تستهلك ما تيسر وتصدر ما تبقى مما أثار استغراب الكاتب الفرنسي "بنوا ميشان" بقوله : أو ليس من الغرابة تأسيس قوة وأمن بلد ما على الزراعة في حين أن هذا البلد صحراوي في معظم مساحته، ليس من نهر يرويه ، ولا يتلقى سوى سبعـــة سنتمــــترات من المطــــر في العــــام " , كما أثار حفيظة الوزير الأمريكي هنري كيسنجر حين زار المملكة العربية السعودية سنة 1975 حين تساءل منزعجا بقوله: " لماذا تزرعون القمح؟ نحن نستطيع أن نورد لكم القمح إلى ميناء جدة بسعر أرخص بكثير من تكلفة إنتاج الكيلو الواحد في السعودية،..وقيل له حينها: إن هناك توجها لدى الملك فيصل بن عبد العزيز وحكومته لتحقيق شيء من الاكتفاء الذاتي الغذائي في الجزيرة العربية، وأن هناك قابلية للزراعة، وأن المملكة تريد استثمار هذه القابلية سواءً في أراضيها أو في غيرها من أرجاء الجزيرة العربية. انزعج الأمريكان من هذا الكلام، وعقد كيسنجر مؤتمره الصحفي الشهير في مطار الرياض، وقال فيه كلاماً ساخنا مفاده: "افعلوا ما شئتم في الجزيرة العربية، وستكتشفون في المستقبل أنكم لن تستطيعوا شرب النفط"، (4) فالرجل لم يتغير طعمه ولا لونه فهو كما يعرف بعراب السياسة الأمريكية الحديثة قدم يوما دون خجل مع صاحبه برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي لرئيس الولايات المتحدة مذكرة عن قرار 314 لمجلس الأمن القومي حول ما يتضمنه مخاطر النمو السكاني العالمي فدعا ما يعرف بوثيقة الأمن القومي NSSM 200 الى إجراءات نشطة لإجبار البلاد المتخلفة على قبول تحديد النسل ، وبالأساس حرمانها من الغذاء . (5)
المصادر :
(1) من بحوث موقع دارة الملك عبدالعزيز ,
http://www.darah.org.sa/bohos/Data/12/8-1.htm (تم الاطلاع مارس 2008)
(2) الريحاني : أمين ، تاريخ نجد الحديث ، ص 261 .
(3) من بحوث موقع دارة الملك عبدالعزيز ,
http://www.darah.org.sa/bohos/Data/12/8-1.htm (تم الاطلاع مارس 2008)
(4) الغرباوي , ياسر ,معركة الخبز والزيت ,قناة الجزيرة , 10/10/2007 م,
http://www.aljazeera.net (تم الاطلاع مارس 2008)
(5) ندوة التنمية الإنسانية في العالم العربي , قناة الجزيرة , 4/6/2004م ,
http://www.aljazeera.net (تم الاطلاع ابريل 2008)