الظل والحرور

Posted 11:39 م by ali-aljassim in



أعرف صديقاً كان يدرس العمارة في الولايات المتحدة الأمريكية ، فاستغرب أستاذه الجامعي من كثرة اهتمامه الزائد بالعمارة في منطقة الجزيرة العربية وتوظيف ثوابتها في العمارة الحديثة ... فنادى طالبه النجيب إلى مكتبه وطلب منه تفسيراً لذلك ...؟؟ . يقول صاحبي : حاولت أن أشرح للأستاذ أهمية العمارة في الخليج العربي ذي الموقع الجغرافي الصعب وكيف أن مناخه القاسي يجب أن يجابه بأنماط عمارة معينة تعنى بالبيئة الصحراوية ؟!! . إلا أنني لم أجد لديه استيعاباً لأهمية ما طرحته حتى أتيته يوماً بصورة فوتوغرافية لرجل استظل من حرارة الشمس تحت عمود نور .... وقدمتها إليه وقلت له : أستاذي الكريم الظل عندنا في الخليج هو " الجنة " .... ؟!! فأدرك الأستاذ ما أعنيه فبارك لي بحوثي واهتمامي وأوصاني بالمتابعة .....
وكان لاهتمامي البالغ بالعمارة القديمة في الكويت رسماً وكتابة أثر بالغ في متابعة الأمر لحين ساعة إدراك أهميتها حين نودي لصلاة الظهر في أيام صيف 1996 لأخرج مسرعاً إلى المسجد المجاور لألحق " الجماعة " ولاستعجالي نسيت لبس النظارة الشمسية ، فشعرت وأنا في الطريق إلى المسجد بالوهج الضوئي الكبير الذي " أكل عيني " وكاد يعمي بصري ، فقد كانت أشعة الشمس الساطعة على السطوح الأسمنتية قوية وانعكاسها الشديد أفقدني رؤية الأشياء التي أمامي .. ؟!! ولما وصلت إلى ظل حائط المسجد تمنيت لو أن الظل كان ممتدا من بيتنا إلى المسجد ، كما كانت فرجات الكويت القديمة الضيقة والمتلاصقة توفره ..؟!!
بعد مدة كنت أتأمل صورة فتاة أفريقية وكيف كان سطوع الشمس عليها قد أبهت الألوان إلا من ظل حجاب الرأس على منطقة العين الجميلة لتفجر الصورة إشراقه فكرة برسم الظل وترك ما سطعت عليه الشمس أبيض باعتبار اللون الأبيض عنصراً متوازياً لألوان الظل التي اشتقت منه فيزيائياً حيث أثبت العالم الإنجليزي ( نيوتن : 1643-1727) أن الضوء الأبيض هو أصل اللون وقد بين بالتجربة أن الضوء الأبيض إذا نفذ من منشور زجاجي تفكك إلى سبعة ألوان هي : الأحمر ، البرتقالي ، الأصفر ، الأخضر ، الأزرق ، النيلي ، البنفسجي . وهي نفس الألوان التي نراها في ألوان الطيف ، عندما يخترق قطرات المطر المتساقطة طيف الشمس. ويقاس علميا درجة نقاء اللون بدرجة اللون الأبيض فيه؟؟
وأن اللون الأبيض كما أكد العلم صفة للنور والضوء وأن قيمته في المعتقدات الدينية كبيرة ،" ففي العقيدة الإسلامية ورد ذكره في تسع آيات كريمات دل أمرها على الهداية والنقاء والصفاء والحب والخير والحق والمشاعر الإنسانية" (1) , واللون الأبيض هو عنوان المبشّرين بالجنة كما أورد الحق جل وعلا في سورة آل عمران {106} " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ", والأبيض كان موصى عليه في السنة المطهرة فهو لباس المؤمنين في الحياة الدنيا ولباس المحرمين في الحج وكفنهم بعد الموت ومفارقة الدنيا . ولا غرابة أن حاكى ذلك عقائد سابقة للإسلام ,فقد ذكر جان مخايل صدقة في مؤلَّفه "معجم مصطلحات الألوان ورموزها" "أن الديانات القديمة اعتبرت اللون رمزاً مقدساً، حتى أصبح الأبيض رمزاً للعفَّة وللطهارة، والأسود للحزن وللموت، والأزرق للوفاء، والأصفر للخبث والحسد، والأحمر للعنف، والأخضر للرجاء. ومن ألوان قوس قزح السبعة استخلص الإنسان رقم 7 لحسن الحظ والطالع الجيد"(2). فقد كانت العرب تزهو بالبياض، وتمدح به نساءها ورجالها، كما قال الشاعر حسان مادحاً آل جفنة:
بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهم شُمُّ الأنوفِ منَ الطِّرازِ الأولِ
وكانت أيضا نساء المدن تسمى حواريات لبياضهن ونقائهن من قشف البدو .فاصل الحواري في اللغة كما بين صاحب الفضيلة الشيخ محمود شلتوت : "الأبيض النقي اللون" (3)

* * *
وفرّق العزيز الحكيم بين الضوء والنور فالضياء أو الضوء يصدر من مصدره مباشرة أما النور فهو الضوء المنعكس عن الأجسام المعتمة مثل القمر والكواكب , كما أوضح تعالى في سورة يونس "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً " { آية: 5 } , ولفظ النور كما أورد القرطبي في كلام العرب معناه : الأضواء المدركة بالبصر , واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح , فيقال منه : كلام له نور . ومنه : الكتاب المنير , ومنه قول الشاعر :
نسب كان عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا
والناس يقولون : فلان نور البلد وشمس العصر وقمره . وقال : فإنك شمس والملوك كواكب. (4)


وقد وردت كلمة النور في خمسين آية تقريباً ـ في القرآن العظيم، وعند ذكرها فلابد أن تذكر آية المشكاة في قوله تبارك وتعالى: {
ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } سورة )النور: 35( , ويقول العارف بالله سيد قطب في كتاب في ظلال القران" : الله نور السماوات والأرض"....النور الذي منه قوامها ومنه نظامها.. فهو الذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها.. ولقد استطاع البشر أخيراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة ـ بعد تحطيم الذرة ـ إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور! ولا " مادة " لها إلا النور! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات، تنطلق ـ عند تحطيمها ـ في هيئة إشعاع قوامه النور! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون"(5)
ويذكر الدكتور كارم غنيم في بحثه القيم الضوء والنور بين المعارف الفيزيائية والقرآنية ان النور " في القرآن العظيم مفرداً دائماً، أما " الظلام " فيأتي في القرآن العظيم دائماً بصيغة الجمع، وفي هذا حكمة بالغة. وأما الأمثلة التي توضح هذا فعديدة، نذكر منها قول الله تعالى : (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[سورة البقرة: 257].
)الَر. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )(سورة إبراهيم: 1)
)هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )(سورة الحديد:9) (6)
وقد تكون الحكمة من إفراد " النور " وجمع " الظلمات " هي "أن النور مستمد من نور الله، الذي هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فاقتضت الحكمة أن يفرده كما تفرد سبحانه بجميع صفاته. والنور كما أضاف في حقيقته شفاف، وبالتالي فمن يحصل على القليل منه، يهديه إلى الكثير، أما الظلام فداءٌ ووباءٌ، وقليله يولد كثيره، والظلمات عديدة، ظلام الجهل، ظلام الضلال، ظلام الكفر، ظلام التيه، ظلام الحيرة، ظلام العناد، ظلام المكابرة ".(7)




المراجع والمصادر:
(1) ثويني ,علي , الالوان في الفنون والعمارة الاسلامية , مجلة الوفاق السنة الثامنة عدد 2257
(2) مخايل صدقة ,جان , معجم مصطلحات الألوان ورموزها , منشورات دار أديفا للنشر، 2002.
(3) تفسير القرآن للشيخ محمود شلتوت
(4) تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
(5) تفسير في ظلال القرآن/ سيد قطب (ت 1387 هـ)
(6) غنيم, كارم ,الضوء والنور بين المعارف الفيزيائية والقرآنية,موسوعة الاعجاز العلمي في القران والسنة
(7) غنيم, كارم ,الضوء والنور بين المعارف الفيزيائية والقرآنية,موسوعة الاعجاز العلمي في القران والسنة


0 comment(s) to... “الظل والحرور”

0 التعليقات:

إرسال تعليق