ما زلت أذكر عندما كنا صغاراً كانت جدران البيوت وأسوار الفرجان والمدارس ساحة لنا للتعبير عن أحلامنا وآلامنا الصغيرة ، فكنا نكتب عما نحبه وعما نكرهه ونخط ما يليق وما لا يليق ، تضمنت تعابيرنا العفوية مفردات عديدة و'علوقات ' كبيرة بحدها الأدنى من تنابز بالألقاب : ' حمود العـوي ' ' سموي العبد ' ' سبجوه الحوله ' ,و حدها الأعلى من قواميس الشتيمة والكلمات البذيئة ، انتقاماً لنفس هانت أو تربص لكرامة ضاعت أو فضح لمن أراد ستر عيبا ...؟؟
إلا أن كتاباتنا لم تخلُ من عبارات الإعجاب والحب الكبير ، فأسماء النوادي الرياضية واللاعيين المشهورين نالت المدح والتمجيد فكتبنا 'عاش نادي القادسية' , 'عرباوي وبس', 'بو حمود المرعب' , 'فيصل الملك' , 'الفارس الأسمر' ، وكتبنا بما جاشت عواطفنا من فيض المشاعر بيننا وبين من نحب بتعبير عفوي صادق ، فكثيرا ما رسمنا صورة القلب المخترق بالسهم النافذ وإشارات كبيرة لحروف الأسماء خطت بالفحم والطباشير المسروق من حصص المدارس ، أدوات رخيصة لا تكلف شيئا لكن كان أثرها كبيرا ، لم تكن الجدران وحدها ساحة التعبير ، بل سطوح المنازل أيضا كانت ميدانا آخر لطاقة قد يشجعها الأهل أو يغضوا الطرف عنها غير مبالين أو يحمروا العين عليها إن تكرر أمرها ، فالخطوط الملونة كانت ترسم الشخصيات الكارتونية المحببة 'ميكي ماوس' 'والباباي' أو كتابات لآيات الحق ' قل هو الله أحد' وما كنا نحفظه صغاراً من القرآن الكريم .
ذهبت الكتابات والرسوم وأكلها النسيان والأصباغ وهدم العمران ، وكبرنا وعرفنا وعرفّنا لمن حولنا حدود العيب والحفاظ على نظافة البيت وصورته جدارا أو سطحا داخليا .
إلا أن الأمر عاد يوما وبشكل مفاجئ أيام الدراسة في المرحلة الثانوية ودون سابق إنذار دخلنا يوما الصفوف لنجد عبارات الشتيمة من العيار الثقيل قد كتبت بحق الهيئة التدريسية وناظر الثانوية ... !! لم تصدق عيني ما رأت فالعبارات جريئة وحادة جداً جداً ، امتدت على أغلب الفصول ، هزت الهيئة التدريسية بكاملها ، التي استنفرت قواها غاضبة ومتوعدة لمعرفة الفاعل أو الزمرة المستهترة ، فقاموا بتوزيع أوراقاً بيضاء وطلبوا من كل طالب الكتابة وذلك بغية معرفة الكاتب ، بمقارنة الخطوط ، أمر ساذج ضحك عليه الجميع ، فالخط حتما سيختلف قدر تحكم اليد بالقلم عن تحكمها بعلبة ' صبغ الرش' تأملت الكتابات وحزنت لتشويهها شكل المدرسة ، لم آخذ الموضوع إلا على هذا القدر ، فهمّي وهمّ كل من في المدرسة ، من الفاعل ؟!!!
إلا أن الأمر تشكل لي كصورة واضحة ورؤية جديدة حين التقيت يوما عام 1987م بفنان عراقي كبير بلغ صيته آفاق الجامعات الأجنبية التي كانت تدرس فكرة وتحلل فنه ، صاحب مدرسة أطلق عليها 'البعد الواحد' اسم انطلق من خلال المعرض الذي أقيم في المتحف الوطني ببغداد عام 1971م شارك به عدد من الفنانين الرواد متخذين من الحرف الكتابي قيمة تشكيلية وعنصراً أولياً ونهائياً للتعبير عن توجهاتهم ، رغم تباينها ، حيث جاء في بيان المعرض : ' أن ممارسة الحرف وهو مسألة لغوية بحته في الفن التشكيلي تبدأ في الأصل عند الفنان الحديث كمناورة أدبية لتكوين مناخ جديد زاخر بإمكانيات رمزية وزخرفية معا ... وهو ما يضفي على الفن بعداً جديداً لم يكن الفنان قد ألم به إلا منذ وقت قريب ' .
التقيت بالفنان شاكر حسن آل سعيد رحمه الله في حوار صحافي جميل سألته عن كثير ، وأجابني باختصار عن فلسفته الصوفية : 'الجملة أصلها كلمة والكلمة أصلها حرف والحرف أساسه نقطة ,لا بعد لها ولا منتهى .... فجداريات المدن عنوان ثورة ورسالة لنا' . تأملت أعماله فتهت في الرموز الكثيرة التي لم أفهمها جيداً لكنني استوعبت مغزاها ، حين همست لي يوما فنانة خليجية قد اقتربت من هذا الفن وقالت : 'الفنان شاكر كان ثوريا ومعارضا في فنه لكل أنواع الاستبداد الذي عايشه ... '
إلا أن كتاباتنا لم تخلُ من عبارات الإعجاب والحب الكبير ، فأسماء النوادي الرياضية واللاعيين المشهورين نالت المدح والتمجيد فكتبنا 'عاش نادي القادسية' , 'عرباوي وبس', 'بو حمود المرعب' , 'فيصل الملك' , 'الفارس الأسمر' ، وكتبنا بما جاشت عواطفنا من فيض المشاعر بيننا وبين من نحب بتعبير عفوي صادق ، فكثيرا ما رسمنا صورة القلب المخترق بالسهم النافذ وإشارات كبيرة لحروف الأسماء خطت بالفحم والطباشير المسروق من حصص المدارس ، أدوات رخيصة لا تكلف شيئا لكن كان أثرها كبيرا ، لم تكن الجدران وحدها ساحة التعبير ، بل سطوح المنازل أيضا كانت ميدانا آخر لطاقة قد يشجعها الأهل أو يغضوا الطرف عنها غير مبالين أو يحمروا العين عليها إن تكرر أمرها ، فالخطوط الملونة كانت ترسم الشخصيات الكارتونية المحببة 'ميكي ماوس' 'والباباي' أو كتابات لآيات الحق ' قل هو الله أحد' وما كنا نحفظه صغاراً من القرآن الكريم .
ذهبت الكتابات والرسوم وأكلها النسيان والأصباغ وهدم العمران ، وكبرنا وعرفنا وعرفّنا لمن حولنا حدود العيب والحفاظ على نظافة البيت وصورته جدارا أو سطحا داخليا .
إلا أن الأمر عاد يوما وبشكل مفاجئ أيام الدراسة في المرحلة الثانوية ودون سابق إنذار دخلنا يوما الصفوف لنجد عبارات الشتيمة من العيار الثقيل قد كتبت بحق الهيئة التدريسية وناظر الثانوية ... !! لم تصدق عيني ما رأت فالعبارات جريئة وحادة جداً جداً ، امتدت على أغلب الفصول ، هزت الهيئة التدريسية بكاملها ، التي استنفرت قواها غاضبة ومتوعدة لمعرفة الفاعل أو الزمرة المستهترة ، فقاموا بتوزيع أوراقاً بيضاء وطلبوا من كل طالب الكتابة وذلك بغية معرفة الكاتب ، بمقارنة الخطوط ، أمر ساذج ضحك عليه الجميع ، فالخط حتما سيختلف قدر تحكم اليد بالقلم عن تحكمها بعلبة ' صبغ الرش' تأملت الكتابات وحزنت لتشويهها شكل المدرسة ، لم آخذ الموضوع إلا على هذا القدر ، فهمّي وهمّ كل من في المدرسة ، من الفاعل ؟!!!
إلا أن الأمر تشكل لي كصورة واضحة ورؤية جديدة حين التقيت يوما عام 1987م بفنان عراقي كبير بلغ صيته آفاق الجامعات الأجنبية التي كانت تدرس فكرة وتحلل فنه ، صاحب مدرسة أطلق عليها 'البعد الواحد' اسم انطلق من خلال المعرض الذي أقيم في المتحف الوطني ببغداد عام 1971م شارك به عدد من الفنانين الرواد متخذين من الحرف الكتابي قيمة تشكيلية وعنصراً أولياً ونهائياً للتعبير عن توجهاتهم ، رغم تباينها ، حيث جاء في بيان المعرض : ' أن ممارسة الحرف وهو مسألة لغوية بحته في الفن التشكيلي تبدأ في الأصل عند الفنان الحديث كمناورة أدبية لتكوين مناخ جديد زاخر بإمكانيات رمزية وزخرفية معا ... وهو ما يضفي على الفن بعداً جديداً لم يكن الفنان قد ألم به إلا منذ وقت قريب ' .
التقيت بالفنان شاكر حسن آل سعيد رحمه الله في حوار صحافي جميل سألته عن كثير ، وأجابني باختصار عن فلسفته الصوفية : 'الجملة أصلها كلمة والكلمة أصلها حرف والحرف أساسه نقطة ,لا بعد لها ولا منتهى .... فجداريات المدن عنوان ثورة ورسالة لنا' . تأملت أعماله فتهت في الرموز الكثيرة التي لم أفهمها جيداً لكنني استوعبت مغزاها ، حين همست لي يوما فنانة خليجية قد اقتربت من هذا الفن وقالت : 'الفنان شاكر كان ثوريا ومعارضا في فنه لكل أنواع الاستبداد الذي عايشه ... '
0 comment(s) to... “الجدار ... جريدة التاريخ ومنبر الحرية الصامد”
0 التعليقات:
إرسال تعليق